مقالات
للتذكير في الذكرى
قبل ثلاثة أسابيع فقط من مصرع الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، كتبتُ هذا المقال، الذي أُعيد اليوم نشره، تذكيراً لذوي الألباب، في الذكرى الخامسة لرحيله المأساوي، الذي توقّعته يومها بكل صدق مع النفس وأمانة الكلمة:
ليتهُ فعلَها ورحل!
كل المسافات قصيرة، بل قصيرة جداً، في حياة الشعوب العربية -والشعب اليماني بالذات- بدءاً من المسافة الزمنية بين الطفولة والكهولة، مروراً بالمسافة العاطفية بين النشوة والنكسة، وصولاً إلى المسافة الذهنية بين المعرفة والتيه.
غير أن المسافة بين القصر والقبر طويلة جداً في حياة حُكَّام هذه الشعوب!
هذه قاعدة بدهية -من وجهة نظري على الأقل- لا تقل مصداقيتها عن جميع القوانين العلمية والمنطقية السارية في حياتنا، ممهورةً بأسماء ابن النفيس وابن الهيثم وابن خلدون وابن سينا واينشتاين ونيوتن وداروين وبافلوف وغيرهم.
وقد بلغت جرثومة هذه الآفة أقصى أثرها حين أقترفت بعض الأنظمة التوتاليتارية أفدح جريمة في حق شعوبها، عندما سَنَّتْ في دساتير دولها نصوصاً تقتضي أبدية عهد الحاكم أو النظام، كمثال أن تُشير مادة في الدستور الى أن الشخص الفلاني يغدو حاكماً للبلاد مدى الحياة.. أو أن منصب رئيس الدولة يجب أن ينحصر في الفئة الفلانية أو الطائفة العلانية.. وحتى من دون تحديد هذه الشروط، يكون عدم تقنين الأمد الزمني للولاية الرئاسية بفترة محددة مدخلاً واسعاً إلى أنشوطة التأبيد، وبالتالي تتبدَّى الحيلولة دون التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.
ففي بلدان الديمقراطيات الراسخة -وحدها- توافرت دساتير تنص على مبدأ تداول السلطة سلمياً وديمقراطياً، وعبر قنوات وأدوات تتمتع بنزاهة كافية لتطبيق هذا المبدأ على نحو سليم، وبمنأى عن تحايلات من أي نوع ولو على غرار فلاديمير بوتين وميليس زيناوي!
أما في بلدان الديكتاتوريات، فالدستور مجرد منديل ورقي زهيد الثمن وهابط الجودة، أو هو هيكل عظمي مُسيَّج بأسلاك وأشواك معقدة وغليظة من الدوغما والطوطم والتابو.. بدءاً من نظام المرور، مروراً بالأحوال الشخصية وحقوق المرأة والطفل، بلوغاً الحقوق السياسية وأوضاع الأقليات العرقية والعقائدية وغيرها.
...
ذات يوم، أقدم علي عبدالله صالح على تثبيت نص دستوري يُقنِّن الأمد الزمني للولاية الرئاسية في الجمهورية اليمنية، ضارباً مثالاً في غاية الأهمية والخطورة في المشهد السياسي العربي لجهة الامتثال للمبادئ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، أو بمعنى آخر: الزُّهْد في الحُكم.
قيل يومها إنها مجرد لعبة سياسية مؤقتة سرعان ما يتبدَّد غبارها الملون وينكشف قناع البلياتشو الضاحك على المسرح السياسي الشعبوي عن وجه بالغ الدمامة. وبرغم تلاطم الشكوك والآمال في رأسي يومها تجاه هذا الإجراء، فقد غامرتُ وكتبتُ مقالاً يطير ابتهاجاً بهذا المنجز الأسطوري، كما وصفته حينها، مُمجِّداً الرجل الذي جرأ على اجتراح ملحمة لم يجرؤ على الاتيان بها أحد قبله من حكام العالم الثالث بعد الألف.
وكم كانت صدمتي فادحة للغاية حين أدركت أن هذا المنجز الأسطوري والفعل التاريخي لم يكن أكثر من مسرحية هزلية هزيلة، اِذْ سرعان ما لحسَ الرجل كلامه، فألغى هذه المادة النفيسة في أول تعديل دستوري!.. ثم أنبرى بعض مُهرِّجيه للترويج -بإيعاز منه شخصياً- لمبدأ جديد قديم في السياسة العربية التليدة: تصفير العدَّاد الرئاسي، ثم قلعه نهائياً من الأساس، أي التأبيد!
إني أرى الموت يتراقص بين عينيه اليوم، برغم أن الأعمار بيد الله وحده.
وكم كنت أتمنى أن يرحل الرجل عن هذه الدنيا الفانية وقد أسَّس لهذا التقليد السياسي الدستوري الرائع في حياة هذا الشعب الضائع.. غير أن المُدْبِر مدبر.. فقد أدبرَ نفسه وأدبر شعباً بأكمله.. وما يتوالد في البلد اليوم من المآسي والويلات، وما سيستتبعه غداً وبعد غد، ليس إلاَّ ثمار الشوك والعلقم التي بذرها هذا الرجل في الطين، على مدار عشرات السنين، وهو يدري أن حصادها المُر لن يكون في طبقه يوماً، إنما في طبق شعب ساد أجداده الزمان وضاق على أحفاده المكان!