مقالات
من الحنين.. إلى الأنين!
لم أكن أظن أنني سأعيش بين قرنين.. القرن العشرين، قرن الثورات والحروب.. والقرن الحادي والعشرين، قرن الثورات والحروب أيضاً.. وما خفيَ منه - وفيه - أعظم!
كما لم أكن لأتوقّع - بل لأحلم - أنني سأحيا بين عهدين.. عهد التشطير، وعهد الوحدة.. وأنني سأعبر البرزخ التاريخي العظيم على الأقدام لا في الأحلام!
وقد شاءت لي الأقدار أن أحيا الساعات الأخيرة من عمر الانفصال، والساعات الأولى من عمر الوحدة، عن كثب.. بل أن أكون واحداً من ثُلَّة شهدت مراسيم إعلان قيام الدولة الوليدة ورفع علمها في الزمان والمكان.
ثم يوم جاءني الخبر باختياري للانتقال إلى عاصمة دولة الوحدة - صنعاء - للإقامة والعمل فيها، كدتُ أطير فرحاً، متناسياً عشقي الكبير لمدينتي الأغلى عدن، التي لم أتخيَّل يوماً أنني سأقيم في مدينة سواها ما حييت!
ولم يكد عام ينصرم، حتى استحال الحلم إلى كابوس.. بدا للوهلة الأولى مثل شكَّة دبوس، ثم صار الدبوس مسماراً، ثم سكيناً، فرمحاً، حتى استحال إلى صاروخ!
راحت الاغتيالات والتصفيات الجسدية تغرز نصلها في خاصرة الوليد الوحدوي. وكان من شديد حزني أن عدداً ممن طالتهم كانوا ممن عرفتهم عن قرب، أو من أصدقائي أو زملائي الأعزاء.
ولعمري كلما تذكَّرتُ ماجد مرشد سيف - على سبيل المثال فحسب - أعتصر الحزن قلبي، كما في ليلة وصلني خبره الفاجعة.
ثم أعادت الأقدار لعبتها معي، ولكن على نحو تراجيدي هذه المرة. فقد وجدتني - بحكم المهنة والنشاط العام - قريباً جداً من أجواء الأزمة السياسية الحادة في العام 1993، ثم في أتون الحرب الأهلية القذرة في العام 1994.
وهنا - في تلك اللحظة - لم يعد الحلم مجرد كابوس.. بل صار فاجعة بحجم وطن بأكمله وشعب بكامله.. فانكسر المشروع الوحدوي الديمقراطي في الوعي والوجدان قبل أن يتحطم على أرض الواقع!
حزَّ في قلبي كثيراً أن أرى - وأسمع - الجماهير التي خرجت يوماً في شوارع ودروب مدينة عدن تدعو إلى الوحدة وتتعهد بالذود عنها بدمائها، تخرج بعد ذلك في الشوارع والدروب ذاتها - في المدينة نفسها - تدعو إلى الانفصال وعودة عهد التشطير!
غير أن ما يحز ُّ في النفس أصلاً، ليس هذا المشهد بحدّ ذاته، بل الأسباب التي دفعت هذه الجماهير إلى اتخاذ هذا الموقف الخطير.
إن النزعة نحو الانفصال وعودة الشطرنة ليست جذراً عميق التاريخ.. إنما هو بذرة حديثة العهد زرعها شيطان الحكم الغاشم بالدماء والدموع، لاسيما في زمن الأزمة السياسية والحرب الأهلية 1994.
لقد اختزل التاريخ السياسي اليمني الحلم ثم المشروع الوحدوي - في حالته الكُليَّة - بالمرور به بين برزخين: من الحنين.. إلى الأنين!!
وإذْ كان الحنين يُوشَّى بمنديل يقطر دمعاً، فقد صار الأنين يُكسى بكفن يقطر دماً!
وسيبقى سؤال المستقبل بين المشهدين... إلى أين؟