مقالات
13 يناير .. هل لا تزال تتذكر؟
كان من المفترض أن أكتب اليوم شيئاً عن سيرة الدم في اليمن.. أو عن بروفايل القتل في عدن.. أو عن دفتر الذكريات الكئيبة جداً إلى الحدّ الذي لا يوصف.. فاليوم تحل الذكرى 38 لمذبحة 13 يناير.. هل لا يزال أحد يتذكرها؟
لكن فجأة، قررت أن أنشر - هنا - هذي السطور للزميلة هدى جعفر. فقد رأيتها أبلغ مما كنت سأكتبه، وأصدق مما كنت سأقوله.
اقرأ، واحكم بنفسك على ما لم تعرفه عن 13 يناير بقلم هدى جعفر:
كنتُ طفلة أحب جلسات الكبار، وطالما تسللتُ بخفة القطط لأجلس في طرف الغرفة، قُرب عتبة الباب، لأسمع ما يصح أن يسمعه الأطفال، وما لا يصح.
يسألني الناس عن الحرب في اليمن، عن القصص التي لا تغطيها نشرات الأخبار، ولا وسائل التواصل، فأتذكر قصة، على سبيل المثال، المتسولة التي لم يبقَ منها سوى كلية تعلقت على شجرة الحيّ، والمرأة ذات العنق الثلجي التي لوت عنقها الشياطين، يُمكن أن أحكي كذلك عن سقف البيت الذي تأملته طويلًا في انتظار أن يقع عليّ.
لكن كُلّما روت نفسي لنفسي قصة عن الحرب، فلن تكون سوى الحكاية التي سمعتُ بها وأنا طفلة صغيرة: قصّة "سيدة الحافلة"، التي حدثت في عدن، وتناقلها الأهالي، مثل كرة اللهب، من أذن إلى إذن، ومن غرفة إلى غرفة، حتى وصلت إلى بيتنا على بعد آلاف الأميال، وبعد حدوث القصة بسنواتٍ طويلةٍ، كان ذلك في التسعينات.
كانت زيارة لبيتنا من ضيوف قدموا من عدن، التي لم تفق بعد من الاقتتال الدموي المعروف باسم "أحداث 1986"، تمر اليوم ذكراه الثامنة والثلاثين، الذي اشتعل بين "الرفاق" من الحزب الاشتراكي اليمنيّ وخلف في شهرين اثنين من أربعة آلاف إلى عشرة آلاف قتيل، وضربة "شومة" 30 غرزة، في وجه عدن الجميل.
في ذلك اليوم، تسللتُ لأجلس على "بوف" عصمنليّ في طرف الغرفة دون أن ينتبه أبواي لوجودي وسمعتُ أبشع القصص عن واحدة من أسوأ الحروب الأهلية، التي حدثت في اليمن، لكن قصة تلك السيدة هي ما ظل يشعرني بالخوف لسنواتٍ طويلة.
قررت "سيدة الحافلة" مع ابنها الرضيع، التقطت وسادة نوم وحضنتها، ووضعت طفلها بينهما وهربت، داست على جثث الجيران، والطوب والحديد والزجاج، وتحت وابل القذائف والرصاص والصراخ الدامي، ركضت وتسللت ثم وجدت الرصيف، الذي قالوا لها بأنها ستلقى الحافلة فيه، حافلة من بقايا الأسطول الذي انتشر في عدن منذ أيام الاستعمار البريطاني، وبعد ساعات الهروب التي تجلد كسوط سوداني، وصلت الحافلة وركبتها بأمان وتنفست الصعداء، أبعدت الوسادة لتشاهد طفلها، ولكنّها لم تجده، لقد سقط منها، هكذا ببساطة.
من كان هناك قال بأنّها شهقت، ثم صمتت، صمتت إلى الأبد، وغاب عقلها، لم تبكِ ولم تصرخ، لم تنزل من الحافلةِ، ولم يستطع أحد انتزاع الوسادة من حضنها، وظلّت هكذا إلى أن ماتت.