مقالات

حكاية البنت المُهمَّشة "دَلَا دلَا" (ا 1)

تعبيرية
13/09/2024, 09:53:06

ذات يوم من أيام شهر أغسطس 1968، وفي اليوم نفسه، الذي استلم فيه منصور الصوفي أول راتب له من البنك اليمني - فرع الحديدة، مر في المساء على مكتبة "الثقافة" في "باب مُشرف"، واشترى مجموعة كُتب، وبعد خروجه من المكتبة ذهب إلى مطعم الحاج عبد السلام في شارع صنعاء.

وبعد العشاء، عاد إلى محل إقامته في رصيف شارع "المطراق"، وبمجرد أن وصل نصب سريره، الذي استأجره من يوسف الدُّوْبِي قُرب عمود الكهرباء، وشعر وهو يستلقي عليه بنفس شعور الملك، وهو يستوي على العرش.

وفيما كان منهمكا في قراءة واحد من الكتب، التي اشتراها من المكتبة، مرت فتاة من فئة المهمَّشين، وأول ما أبصرته اقتربت من سريره، وطلبت منه أن يعطيها شيئا لله.

وعلى ضوء عمود الكهرباء، أبصر فتاة فائقة الجمال بقامةٍ ممشوقةٍ، وجسدٍ منحوتٍ، وبنهدين متوتِّرين؛ نصفهما الأعلى ظاهرين وبارزين، ونصفهما الأسفل متواريين ومختفيين.

ولشدة ما كانت جميلة وكاملة الأوصاف، استحى أن يعطيها كما يعطي غيرها من المتسولين والمتسولات، وأعطاها ريالاً كاملا. وفي تلك الأيام، كان الريال ريالاً، وكان الواحد يصطبح بالريال، ويتغدى، ويتعشى، ويخزن، ويدخن، ويسينم، ويبقى من الريال الكثير.

وقد فرحت البنت المهمَّشة بالريال فرحاً عظيماً، وقالت له إنه أول واحد يعطيها مبلغا كهذا، وحين رأت الكتب فوق سريره قالت له إن المتعلمين، الذين يذهبون إلى المدرسة  لهم بيوت، وفي بيوتهم ينامون، ويقرأون كتبهم، وليس في الشارع.

وسألته عن السبب الذي يجعل شخصا متعلما مثله ينام في الشارع، ويقرأ في الشارع، ولماذا ليس له بيت؟!

وحين قال لها إنه ليس طالبا، استغربت، وسألته عما يجعله يقرأ، ويتعب نفسه، ويرهق عيونه، طالما أنه لا يدرس.

ثم سألته عن أمه، وأبيه، وأهله، وكانت كثيرة الأسئلة، وكثيرة الفضول.

وفي مساء كل يوم، وهي في طريقها للمَحْوَى، كانت تتوقف قرب سريره، وتظل تمطره بالأسئلة؛ لكنها بدلا من أن تمد يدها من أجل المال راحت تمدها إلى كتبه تتصفَّحها وتقلِّب أوراقها.

وبالرغم من أن ذلك كان يزعجه، إلا أنه كان يتركها تُشبِع فضولها ليشبَع هو الآخر من جمالها، وكان أولئك الذين يمرون في الشارع يستغربون حين يرونها واقفة بجانب سريره.

وأما يوسف الدُّوبي، الذي كان يغتسل في محله، ويغسل عنده ثيابه، ويستأجر منه سريره، فلشدة انزعاجه منها، قال له: "ما تشتي منك هذي الخادمة  -يا منصور؟!".

قال له منصور: "ولا تشتي حاجة".

قال له يوسف: "هذي باين عليها طمعانة فيك، الله أعلم من قال لها إنك تشتغل بالبنك".

وذات مساء، تجرأت وقعدت في طرف سريره، وسألته عن عمله؟

فقال لها إنه عسكري في الجيش، لكنها لم تصدقه، وقالت له إن العساكر لديهم أسلحة، وليس لديهم كتب.

وبعد مرور أسبوع على تعارفهما، سألها عن اسمها فقالت: "دَلا دَلا".

واستغرب منصور الصوفي من كلامها، وقال لها:

"على أيش تقولي لي: دَلا دَلا؟".

قالت، وهي تضحك: "اسمي: دَلا دَلا".

قال لها، وهو غير مصدق: "من صدق اسمك دَلا دَلا والا تكذبي؟!".

قالت: "والله انه اسمي".

وحين سألها عن السبب الذي جعل أهلها يسمونها "دَلا دَلا"، ضحكت، وقالت إنها تستحي أن تذكر له السبب.

قال لها: "طيب قولي لي من سماك دَلا دَلا أبوك والا أمك؟!".

قالت له، وهي تضحك، إن أمها هي التي سمتها، ورفضت أن تقول له السبب، الذي جعل أمها تسميها هذا الاسم، ثم إنه لم يُلِح عليها.

وكل مساء، كانت دَلا دَلا تمر به  وتسلِّم عليه، وتجلس في طرف سريره، تلقي عليه بالأسئلة، وهو يجيب على أسئلتها، التي لا تنتهي، ويظل يحملق في جمالها، وفي تفاصيل جسدها، الممشوق والمنحوت، كما لو أنه  يحملق في لوحة من إبداع الخالق.

وكانت دَلا دَلا  موناليزا سمراء، وأكثر جمالا من موناليزا دافنشي، تلك المعلُقة في متحف اللُّوفر بباريس!!

الفارق فقط هو أن تلك وجدت فنانا يرسمها، وهذه لم تجد فنانا، ولاحتى مصورا فوتوغرافيا يلتقط لها صورةً يخلِّدها فيها.

وذات مساء، وهي في طريقها إلى "المَحْوَى"، لم تجده، ولم تجد سريره منتصبا في مكانه، وفي مساء اليوم التالي سألته  وقالت له:

"أين كنت أمس -يا منصور؟".

قال لها: "كنت بالسينما".

قالت: "اعزمني على سينما".

قال لها: "بكره أعزمك، لكن بشرط؟".

وحين سألته عن شرطه

قال لها: "تقولي لي ليش أمك سمّتتك دَلا دَلا؟!".

وضحكت دَلا دَلا، وقالت له إن لها شرطاً هي الأخرى؟

وحين سألها عن شرطها؟

قالت: "بعد ما نخرج من السينما تجي معي المَحوَى وترقد، مش تقول إنتم أخدام نجسين".

قال لها منصور: "من يقول إنكم أخدام نجسين؟!".

قالت: "كلهم يقولوا، وانت مثلهم".

قال: "مش أنا مثلهم".

وحين سألته لماذا هو ليس  مثلهم؟ قال لها:

"أنا أكبر خادم".

وضحكت دَلا دَلا ضحكةً سمعها كل من في الشارع.

وبعد أن أنهت ضحكتها، قالت له:

"من صدق شتعزمني سينما والا تكذب؟!".

قال لها: "من صدق".

وبعد ذهابها، قال له يوسف الدُّوبي، وقد وصلته ضحكتها:

"يا منصور أنت ابن ناس، وإنسان متعلم، اليوم تضحك لك هذي الخادمة، وبكرة باتخلي الناس يضحكوا علوك".

قال له منصور: "دَلا دَلا جميلة يا يوسف".

قال يوسف: "صح جميلة لكنها خادمة، والمثل يقول: "لا يَغُرَّك حُسْن الأخدام النجاسة بالعظام".

وراح يوسف الدّوبي يحذّره من دَلا دَلا، ويكلمه عن نجاسة الأخدام، وأنهم فئة نجسة، ولهم رائحة كريهة، ولا يجوز الاحتكاك بهم، والاقتراب منهم، وملامستهم، أو السماح لهم بالاقتراب منا، وملامستنا، وقال له:

"مُكْوِرِيْن -يا منصور- والله إننا أشم كَوَر دَلا دَلا وهي براس الشارع، كيف أنت تقدر تتحمل كَوَرْها؟!".

وحين قال له منصور إنه فقد حاسة الشم، قال له:

"حتى لو انت ما تشمش، الكَوَر حقها يعمي العيون، هذي لو تنكحها والله لا تبكر أعمى واصنج".

كان يكلمه جادا، وبانفعال صادق، وكان منصور الصوفي  يهز رأسه بطريقة توحي أنه مصدق ما يقوله. وليلتها كان يوسف الدُّوبي على يقين أن منصور الصوفي سوف يطرد دَلا دَلا، ولن يسمح لها بالاقتراب منه مرة أخرى، لكنه في مساء اليوم التالي  تفاجأ عندما طلب منه خمسة ريالات.

وكان منصور الصوفي يضع راتبه عند يوسف الدُّوبي، ويأخذ منه كل يوم ريالا مصروفه اليومي، أما وقد طلب منه خمسة ريالات فقد استغرب، وقال له:

"تشتي خمسة ريال!!  ليش؟! أيش في معك؟".

 وعندما قال له منصور إنه عازم دَلا دَلا على عشا وسينما، قال له يوسف الدُّوبي وقد صعقه الخبر:

"أنت مجنون تعزم خادمة على عشا وعلى سينما، هذا ما قد حدث ولا قد سمعنا عن شخص اتعشى مع خادم، أو مع خادمة، حتى المجنون، وهو مجنون، مش ممكن يعملها".

وفيما راح يوسف الدُّوبي يحاول إقناعه بالعدول عن جنونه، ظهرت دَلا دَلا وهي بكامل زينتها، وقبل أن يذهبا إلى السينما ذهبا للعشاء، وعند دخولهما المطعم ذهل الحاج عبد السلام صاحب المطعم، ولم يصدق عينيه حين أبصر منصور الصوفي يدخل بصحبة الخادمة دَلا دَلا؛ ولأنه زبون دائم عنده همس الحاج في أذنه، وقال له:

"أنت ابن ناس -يا منصور- ما يجوز تدخل تتعشي مع خادمة".

لكن منصور ابتسم له، ومضى إلى الطاولة، وبعد جلوسهما، سأل منصور دَلا دَلا، وقال لها:

"ما هو اللي في نفسك؟".

قالت: "كِبْدَة". 

وطلب منصور نفرين كِبْدَة.

وبعد أن أحضر المباشِر الطلب في صحنين، سكب منصور الكِبْدة التي في صحنِه في صحْن دَلا دَلا، ووضعه في الوسط، وراحا يأكلان من الصحن نفسه.

وكان الزبائن في حالة امتعاض وانزعاج، بعد أن أبصروا الخادمة دَلا دَلا تدخل المطعم بصحبة منصور الصوفي، وقال أحدهم للحاج عبد السلام -صاحب المطعم- وهو يدفع الحساب، ويتهيأ للمغادرة:

"هذي آخر مرة آكل فيها بمطعمك يا حاج".

وانزعج الحاج عبد السلام، وقال له:

"ليش؟ أيش حدث؟ ما اعجبكش الأكل، أو ما هو السبب؟".

قال له الزبون: "الأكل مليح ويعجبنا، لكن مادام فتحت أبواب المطعم للأخدام، نروح من بكرة نشوف لنا مطعم نظيف نأكل فيه".

وتفاجأ الحاج عبد السلام بكلام الزبون، وأدرك الخطر الذي يتهدد مطعمه، وقال له:

"والله لو منصور هذا مش هو زبون عندي كنت طردته هو والخادمة حقه".

ثم راح يعتذر للزبون، ويعده بأن الذي حدث لن يتكرر.

وعندما انتهيا من العشاء، وتقدم منصور لدفع الحساب، قال له صاحب المطعم:

"هذي المرَّة لك -يا منصور- ثاني مرة لو تجي أنت والخادمة أمنعك من دخول مطعمي".

قال له منصور، وهو يبتسم:

"ليش -يا حاج عبد السلام؟!ما هو السبب؟ أيش فعلت؟".

قال له الحاج عبد السلام، بصوت مفعم بالغضب: "وعادك مستغرب، وتقول لي ليش؟ وما هو السبب؟ يعني مش عارف أيش فعلت؟!!".

قال منصور وهو مازال محتفظا بابتسامته:

"أيش فعلت؟!".

قال له الحاج عبد السلام بنبرة أكثر حِدة:

"نجَّست مطعمي -يا منصور- وطيَّرت لي بالزبائن".

وراح الحاج عبد السلام يحكي له عن الأضرار والخسائر، وسوء السمعة، التي لحقت، وسوف تلحق بمطعمه؛ من جراء دخول الخادمة دَلا دَلا مطعمه، وتناولها العشاء معه.

وقال له:"مطعمي كان نظيف -يا منصور- وانت وسَّخته، وكان طاهر وانت نجَّسته".

قال له منصور، وقد اختفت ابتسامته:

"أنا وسَّخت ونجَّست مطعمك -يا حاج عبد السلام- تقدر تحلف اننا وسّخته ونجّسته؟".

قال له الحاج عبد السلام، وقد هدأ غضبه:

"مش أنت -يا منصور- الذي وسخته ونجسته، الخادمة دَلا دَلا هي اللي وسخت ونجست مطعمي، كيف تعزمها على عشا في مطعمي، وانت داري أن الأخدام نجسين ووسخين؟!".

قال له منصور: "كلنا -يا حاج عبد السلام- عباد الله، وكلنا خلقنا الله من طين".

وصاح الحاج عبد السلام:

"لا -يا منصور- الأخدام ما خلقهم الله من طين، خلقهم من وسخ، وخلقهم ليزيلوا أوساخنا، وينظفوا شوارع مدننا،

ولو أن الله خلقهم من طين لما كانوا بهذه الوساخة".

وعندها لم تستطع دَلا دَلا أن تكتم غضبها، وقالت للحاج عبد السلام إنه أوسخ من رأت في مدينة الحديدة، وأنها أنظف من زوجته، ومن بناته.

وما لبث الجدل أن احتدم بين منصور الصوفي والمهمَّشة دَلا دَلا وبين الحاج عبد السلام -صاحب المطعم.

وبعد أن ردت دَلا دَلا على الحاج عبد السلام اصطف الزبائن وعمال المطعم مع الحاج، وراح كبير المباشرين يشتم البنت المهمَّشة، ويلعنها، ويقول لها:

"اخرجي قبلما أخرِّج العشا من بطنك".

وردت دَلا دَلا عليه، وقالت عنه إنه ليس برجل، ثم راحت  تهدده، وتقول له:

"والله لا أروح أجيب الأخدام يعربوك".

وبعد أن قالت له ذلك، هجم كبير المباشرين عليها ووجه لها صفعة قوية، وتفاجأ منصور بما جرى، ولم يخطر في باله حين عزم دَلا دَلا على عشاء أنه سيواجه بهذا القدر من الغضب  والتشنج من قِبل الحاج عبد السلام (صاحب المطعم)، وكذا من قِبل العمال والزبائن الموجودين في المطعم، وكان في ذهنه أن الناس حين يرونه بصحبة الجميلة دَلا دَلا سوف يغيرون منه، ويحسدونه، لكنه بعد أن وجد نفسه محشورا في زاوية، وبعد أن سمع صاحب المطعم يهين دَلا دَلا، ويهين فئة المهمَّشين ويقول إن الله خلقهم من وسخ، وليس من طين، ثم وقد راح كبير المباشرين في المطعم يعتدي على دَلا دَلا فضّل أن يغادر ويتجنب الدخول في معركة يكون فيها هو الخاسر، لكن دَلا دَلا، التي توقعت أنه سوف ينتقم لها من كبير المباشرين، تفاجأت حين راح يمسك بيدها ويقتادها إلى الخارج.

 وبعد خروجهما بدت دَلا دَلا  مستفزة ومستثارة وغاضبة من صاحب المطعم، ومن الزبائن، ومن كبير المباشرين، الذي لطمها، لكنها كانت أكثر غضبا من منصور، الذي سحبها للخارج بدلا من أن ينتقم لها.

وراحت تتهمه بأنه مثلهم يكره المهمَّشين ويحتقرهم، وقالت له: "لو كان لطم واحدة غيري كنت شتزعل، وشتقوم تضربه، لكن أني خادمة، ونجس، ما زعلت عليَّ، وبدل ما تنتقم لي خرجت وخرجتني معك، وما خليتني حتى أسبه، وأشفي غليلي منه".

قالت له ذلك، وهي على وشك البكاء، لكن منصور راح يحاول تهدئتها، ويقول لها إنه لو كان رد على كبير المباشرين لكان بذلك قد أفسد ليلتهما الجميلة، وبدلا من الذهاب إلى السينما والنوم في المَحوَى كانا سينامان في قسم الشرطة.

 وحينها هدأت دَلا دَلا، ولاذت بالصمت، وفي طريقهما إلى السينما، وحتى يشعرها منصور بأنه لا يأبه بكل ما يقوله الناس عنها، وعن الفئة التي تنتمي لها، وضع كفه في كفها، وشبك أصابع يمينه بأصابع يسارها، وسارا إلى السينما.

وعند وصولهما، تقدم منصور من شباك التذاكر، وقطع تذكرتين اثنتين: تذكرة له  وتذكرة لها، وكان اسم الفيلم: "أبي فوق الشجرة".

مقالات

سيّد درويش اليمن

هذا ليس مجرد فنان. الموسيقار فضل محمد اللحجي هو سيّد درويش الغناء اليمني. فنان وملحن ومُجدِد، والأكثر إبداعاً لألحان وأغانٍ جديدة في تاريخ الغناء اليمني، مع أنه لم يتجاوز الخمسين عاماً عندما توفي في نوفمبر 1967 برصاصة شيطان مجهول أرداهُ قتيلاً، ومعه أصاب جزءاً حميماً في جسد الفن الغنائي اليمني، وكتم أنفاسه في ذروة عطائه.

مقالات

تجنباً للمزيد من المقابر

من المناهج التعليمية إلى السيطرة على النشاط الاقتصادي ومراقبة الحياة الخاصة، لن يتوقف مسلسل تخريب حياة هذا البلد والاستحواذ عليه عند نقطة معيّنة.

مقالات

مصير المكتبات الخاصة!

إذا وجَّهتَ سؤالاً لأي مثقف يمني أو عربي حول بداية تكوينه الثقافي لوجدت أنَّ الكثيرين جداً يتشابهون في أن الأرصفة والأكشاك المتواضعة كانت بداية تكوينهم

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.