مقالات
ليس أكثر من وهمٍ يصنعه البائس!!
(1)
ما حاولت صنعه الرياض، فيما سمَّته مشاورات يمنية / يمنية، انتهت مساء الأربعاء، وأفضت إلى إنتاج مجلس قيادي رئاسي - أعدت قائمته سلفاً - اقتسمته مع الإمارات من خلال ثمانية من التابعين والموالين الضعاف، هو محاولة لتسويق (وهم) جديد لليمنيين، يضاف إلى أوهام كبيرة، بددتها صلابة الواقع وقسوته والقراءات الإستراتيجية الخاطئة، التي ابتدأت بالمبادرة الخليجية في نوفمبر 2011، وصولاً إلى عاصفة الحزم مارس 2015، وما استتبعته بما يسمى "إعادة الأمل"، وبرنامج الإعمار.
وهمٌ تستخدم فيه الكثير من البائسين المحسوبين على القوى السياسية والناشطين، وقوى الإعاقة التاريخية بمكونها الدِّيني والقبلي لتخريجه وشرعنته، وتبييضه من خلال هيئة قوامها خمسون شخصاً اسمتها هيئة "التشاور والمصالحة"، أُنيطت بها أدوارٌ كبيرة؛ أشك كثيراً بقدرتها على التعامل معها بسبب التعارضات، وتعدد الولاءات بداخلها.
المجلس القيادي الرئاسي الجديد، الذي نقل إليه الرئيس عبدربه منصور هادي كامل صلاحياته، ليس أكثر من شخصيات كرتونية فارغة تدين بالولاء للعاصمتين (أبو ظبي والرياض) أكثر من ولائها للمشروع الوطني، معظمها، إن لم تكن كلها، مستنبتة من قوى الإعاقة التاريخية (المؤتمر والإصلاح)، وخارجة من بنية فسادها التاريخية.
شخصيات ليس بها قائد حقيقي، وصاحب قرار مستقل.
مجلس ترقيعي، حاولت من خلاله الجارة أن يكون ذا تمثيل جغرافي مناطقي وجهوي واسع لـ"صنعاء وصعدة وتعز ومأرب وشبوة والضالع ويافع وحضرموت"، ومع ذلك ليس فيه شخصية عدنية واحدة ولا تهامية أيضاً.
وأعيد فيه تدوير حزبي المؤتمر والإصلاح، في الحياة السياسية، دون بقية المكوّنات السياسية الأخرى، وأعطت فيه أدوراً جديدة لأسرة عفاش، والذراع العسكري للسلفيين، الذين يقسمون ولاءهم بين الرياض وأبي ظبي.
ولن يكون مفاجئاً أن نقرأ ونسمع العديد من الاستقالات من قوام هيئة التشاور والمصالحة، (الفريق الاقتصادي) المشكّلة هي الأخرى من خمسة عشر شخصاً، ومن الفريق القانوني المكوّن من عشرة أشخاص، لأسباب مختلفة تتصل بعدم استشارة بعضهم أو تعارض مصالحهم في ظل حالة الانقسام العامة في البلاد.
لكن تبقى عملية إزاحة الرئيس الضعيف الصامت، ونائبه الفاسد أجمل مشهد في المسرحية الهزلية.
(2)
لنعد قليلاً إلى الوراء، ونكرر بعضاً من القول المعلوم للكثيرين من باب استيعاب الإشكالية التاريخية، التي وضعتنا فيها لعنة الجغرافيا، فمنذ ستين سنة والسعودية تنتج أدواتها الخاصة، وأذرعها في اليمن، التي أوكلت إليها مهمّة إعاقة بناء الدولة، واستقلال القرار السياسي، لأسباب تتصل برؤية حُكام السعودية للجارة المُفقرة، فهي لم تسمح بوجود نظام جمهوري قوي وحديث في خاصرتها الجنوبية في ذروة الحرب الباردة، واصطفاف العالم القطبي، وأنفقت، في سبيل ذلك، الكثير من الأموال، لإدامة حرب إعاقة صناعة الجمهورية بواسطة قوى كانت في خندقها، وصارت اليوم في المتراس الآخر ببندقية طائفية شديدة التعقيد؛ وحين بدأت بالتفاهم مع بنيته الفوقية الموالية، بعد سبعة أعوام من الحروب، كانت قد هيّأت حلفاءها من المشايخ والضباط الموالين والتيار الدّيني الوهابي المتشدد، وإيكالهم مهمّة إفراغ النظام الجمهوري من مضامينه التقدمية والحداثية، وإبقائه كشعار للاستهلاك فقط، وتركت لأذرعها المحافظة تخريب التعليم والسِلم الأهلي، وإغراق مؤسسات الدولة بالفساد.
أوكلت للضبّاط الموالين والرموز القبلية والدّينية المتشددة تنفيذ سلسلة ممنهجة من أعمال حَرف مسار الهُوية الجمهورية الجديدة لصالح هُوية مائعة لشكل سلطة تنتفع من الفساد، والارتهان السياسي، والتخلّف الاجتماعي والثقافي، ولم تتوانَ هذه القوى من تنفيذ عمليات انقلابات متتالية، ابتدأت بانقلاب الخامس من نوفمبر 1967، وصولاً إلى اغتيال الرئيس الحمدي في 11 أكتوبر 1977م، بعد استشعارها خطر مشروعه الوطني الساعي إلى بناء الدولة، واستقلال القرار، بعيداً عن سطوة البنى القبلية، وتأثيراتها المباشرة، التي تدين بالولاء لها، وما استتبع عملية الاغتيال من إعادة إنتاج سلطة من الضبّاط الموالين، وترافق ذلك مع قيام الأجهزة الأمنية بإحكام قبضتها الحديدية، والدامية على مفاصل الوظيفة العامة، فاستبعدت الكثير من كبار الموظفين المحسوبين على الأحزاب السياسية المناهضة لسلطة الحكم، واعتقلت وأخفت المئات منهم، والشيء ذاته فعلته الاستخبارات العسكرية بتسريح مئات الضباط، وتصفية المئات غيرهم من المحسوبين على الصفّ الجمهوري، ابتداء من أحداث أغسطس 1968م بنفَسها الطائفي.
كانت الجارة، ولم تزل، ترى في المال وسيلتها الناجعة لإخضاع النُخَب واستتباعها، وتحويلها إلى أدوات للتأثير على الداخل وتنويمه بكثير من الأوهام؛ وقد نجحت في كثير من المسارات التي صيّرت بلداً متنوعاً ومتعدداً وغنياً بالثروات إلى بلدٍ فقيرٍ وضعيفٍ ومتشظٍ.
كان للسلطة المرتهنة، والمتجمّلة برموز قبيلة ودينية وسياسية، الدور البارز في تمكين الجارة الغنية من ابتلاع الآف الكيلومترات من الأراضي اليمنية، بما فيها توكيد استيلائها على المخلاف السليماني في تهامة اليمن، وبطُرق الحيلة والشراء بعد حرب 1934م.
الحرب، التي أظهرت حينها الفارق بين دولة الإمامة الكسيحة ودولة آل سعود المتوثبة بسلاح الإنجليز وخبثهم، أنتجت اتفاقية الطائف المعروفة، المؤسسة لأسطورة الوصاية، التي وصلت ذروتها مع سلطة صالح التي أبرمت اتفاقية الحدود الإشكالية، بكثير من الرشى في العام 2000م.
الأمر اختلف كثيراً في تعاملها مع دولة يمنية أخرى، قاسمتها جزءا من الحدود الجنوبية الشرقية، وأعني دولة جمهورية "اليمن الديمقراطية الشعبية"، التي أظهرت قوة في مجابهة أطماع التوسّع السعودي في مناطق شمال حضرموت، خلال عقدي السبعينات والثمانينات، وخاضت حرباً من أجل إبقاء الوديعة، وشرورة، والخراخير، ومناطق أخرى في الربع الخالي، يمنية خالصة.
الخمسمائة شخص، الذين استدعتهم إلى مشاورات مدفوعة الأجر لحل المشكلة اليمنية، ليسوا أكثر من تعبير عن حالة الهوان التي وصلت إليها النّخب المتهافتة على المال، والأكثر إيلاماً في الأمر أن كثيرا من المحسوبين على التيار المدني واليسار وشخصيات ذات تاريخ وازن، ارتضت أن تكون حاملة مباخر، وشاهدة زور لتسويق وهم جديد لشعب جائع ومقهور لا يمكن أن تحسَّ به مثل هذه البطون المتخمة، أما تلك القوى المرتبطة تاريخياً بأموال الجارة، وتوجهاتها (من رموز سياسية وقبلية وعسكرية ودينية) فهي شديدة الوضوح، بما تعمل وتبرر منذ عقود طويلة.
بعض الأحزاب اليسارية صارت مختطفة من قياداتها التي هانت، وصارت جزءا من لعبة الارتهان السياسي للجنة الخاصة، وأموالها.
ذهبت إلى هذه المشاورات دون أن تتشاور مع رفاقها، ولم تُخضع اتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة لنوع من التواصل البسيط، لأنها تعي أن موضوع مثل هذا -إن أُخضع للتشاور والتصويت مثلاً- ربما قطع عليها طريق الذهاب إلى حفلة تهريج وليس إلى طاولة جادة تبحث عن حل للمشكلة اليمنية، طريق قصير وسريع للتكسب من حسنات أمير الحرب وسماسرته؛ فالمسألة الوطنية لا يمكن أن تُحل بأموال غير وطنية.
سيشرعنون للجارة أدواراً جديدة في بلد متهتك، لم تزل تراه مكباً خلقياً لقاذوراتها، وربما إخراجها من ورطة الحرب التي لم تستطع إدارتها برؤية ومسؤولية أخلاقية.. الحرب التي جردتها، في سنواتها السبع، من سمعتها السياسية، ومن وهم القوة والتأثير، الذي حاولت تسويقه إمبراطوريات إعلامية تصرف عليها بسخاء منذ عقود.