مقالات
مُنى علي .. أغنية لكل العصور!
أطربت كل بيت في اليمن بأغنية من ذلك النوع الذي يُقال إنه بألف أغنية.
هل تطمح فنانة يمنية لأكثر من هذا: أن تكون صوت الفرح في أعراس أجيال من اليمنيين من بداية ظهورها، منتصف الستينات في القرن القرن الماضي، إلى يوم رحيلها عن الحياة، وما بعد رحيلها.
تتراكم آهات الناس ولحظات فرحهم لتنتظم في صوت واحد يعبِّر عن ذاتهم الجمعِية كشعب.
مُنى علي من هذا النوع النادر من الفنانين، خلاصة لروح عامة أكثر منها صوت فنانة خرجت من بينهم،
صوت تتكاثف فيه نغمة الأرض وناسها، ويعود إليهم لتتوزع نغمته فيهم فرادى في لحظات متفرقة، لكل واحدة منها مناسبة وعنوان ومكان وزمان.
تحولت "الزفة" إلى موجة تتضاعف نغمتها وحضورها كلما اتسع انتشارها؛ لتصل إلى وجدان الناس وتنتظم في أحاسيسهم.
معادلة متبادلة: ينجز الفنان عملا إبداعيا في حدِّه الأساسي، ثم يطلقه مثل موجة تزداد وتيرتها كلما اتسعت في فضاء الناس وأحاسيسهم.
"غانية" امتلأت بشغف الفن، فكانت رائدة المرأة اليمنية في الغناء.
في بداية الستينات، انتقلت فتاة "عُدينية" إلى مدينة تعز؛ بحثاً عن فرصة حياة تمكِّنها من الغناء. كسرت حاجز المنع، وقيود التزمُّت الأسري والاجتماعي، وذهبت إلى تعز لتستقر هناك عند أم جديدة بعثها الله لتكون بديلا لأمّها الراحلة، وملاذا يشجعها على إبراز موهبتها، ويمنحها دعمه، بل واسمه؛ حيث غيّرت الفنانة "غانية" اسمها الحقيقي؛ بسبب الضغوط الأسرية، ليكون اسمها الفني الجديد "مُنى علي"، باسم أمها، التي لم تلدها، نفسه: آمنة علي.
-الانطلاقة الثانية .. رُحلك بعيد
شاخت مُنى علي، وانتقلت إلى ذمة الله، ومع ذلك لا زال أيوب طارش يسميها "البنت"؛ كلما تذكرها وتحدث عنها أمام الآخرين.
انطبعت في ذهنه نموذجا للجمال والأناقة والفن، ولم تفلح عجلة الزمن في محو صورتها هذه من ذهنه.
كان أيوب طارش لا زال شاباً في بداية حياته الفنية حين وصل مُرسال من الفنانة "مُنى علي" للبحث عنه في مكان تواجده في مدينة عدن، وكانت قد سبقته في الانتقال إليها.
قال له: الفنانة مُنى علي تريدك الآن تكون عندها.
ذهب أيوب إلى للقاء مُنى علي في منزلها، وهناك التقى بها ومعها متخصص بتسجيل الأغاني.
جلسوا معاً، وطلبت من أيوب أن يغني مما يحفظ من أغانٍ. كانت الأخبار قد وصلتها عن الموهبة الصاعدة.
وما إن تأكدت منها بنفسها، قالت: لدي أغنية جاهزة ونؤديها معاً، وانتقلوا إلى غرفة التسجيل.
كان ذلك أول "دويتو" فني في الأغنية الشهيرة "رُحلك بعيد"؛
تقول مُنى علي: إن هذه الأغنية من ألحان الفنان علي الآنسي، وسمعتها منه، وقدمها لها بعد أن أعجب بصوتها.
كان انتشار "رحلك بعيد" كاسحاً حينها، ومثلت للفنانة مُنى علي نجاحا كبيرا هو الثاني بعد حضورها الواسع في "الزفة"، الشريط الغنائي الذي وصل إلى كل بيت في أصقاع اليمن وجهاتها الأربع.
في التوقيت نفسه، نزلت مجموعة أغاني للفنان علي الآنسي؛ سجلها في بيروت، وكان ذلك سبباً في تراجع الإقبال عليها مع اكتساح شريط "رحلك بعيد".
كان الجمهور مأخوذًا بأول "دويتو" بين فنان وفنانة.. تقول مُنى علي، وهي تتذكر تلك الأيام: "كان المعجبين في الحديدة يأتون إلى الأستريو طالبين أسطوانة 'أمعبسي وزوجته' - باللهجة التهامية".
ساهم اللحن البديع لأغنية "رُحلك بعيد" في هذا الانتشار للأغنية التي كانت من أوائل الشعر الغنائي للشاعر المتفرد عبدالله عبدالوهاب نعمان.
"الزفة، ورحلك بعيد" أطلقا مُنى علي في اليمن كلها، لكن بدايتها سابقة لهاتين الأغنيتين.
أول أغانيها المسجلة على الأسطوانات في عدن هي: "أيام زهر الليالي":
أيام زهر الليالي كان عيشي طاب
وكان لي أهل تعرفني وكان لي أصحاب
غنَّت مُنى علي مع عدد من فناني اليمن الكبار حينها، إلى جانب أيوب طارش.
مع الفنان علي السمة لها أغنيتان ”انسا كلام الناس” ، "يوه يا حلاوتك”.
مع أحمد عبدالله العديني: "وقتي مضى في صوايح"، ومع محمد العوامي: "أنا يا خلي حبيتك"، و"ما اشتيش طبينة ولا ني راضية”.
العُدين منبع ثري للغناء الشعبي اليمني لا يقل عن مراكز الفن المعروفة في صنعاء ولحج وحضرموت.
ثراء الموروث الشعبي في العُدَين افتقد الشاعر والفنان الذي يستلهمه ويجدده.
لو لم تعرف لحج الشاعر أحمد فضل القمندان، والفنان فضل اللحجي، وثالثهما صوتها الطروب فيصل علوي لبقي موروثها الغنائي الشعبي مجهولاً.
كذلك حضرموت انتظرت حسين المحضار وأبو بكر سالم ليطلقا مكنونات إرثها الغنائي الشعبي بالكلمة واللحن والصوت، القادر على تجديده، والإضافة إليه.
ظهر أكثر من فنان في العُدين إلى جانب الفنانة مُنى علي، لكن غياب الاستمرارية تكاد أن تكون سِمة ملازمة لكل فنان من العُدين.
محمد عبدالله العديني فنان لمع نجمه مع ظهور مُنى علي، واختفى مثلها في وقت مبكر نهاية السبعينات.
الفنان علي الآنسي اهتم كثيراً بالإرث الغنائي الشعبي في العُدين والمناطق الوسطى، واستقى أهم ألحانه وأغانيه من هذا الموروث الشعبي الثري، لكن اهتمامه به كان مؤقتاً، ولم يكن جزءاً من وجدانه وبنائه النفسي.
-عُدينيّة رمزاً للفن والفرح، وعُديني رمزاً للكراهية!
من مفارقات الحياة أن فنانة قادمة من العُدين، منتصف القرن العشرين، كسرت حواجز التخلف، وانتقلت إلى مدينة تعز يقودها شغفها بالغناء، وبعدها بستة عقود يسمع اليمنيون عُدينياً من النوع الآخر، يصفهم ب"التفاهة"؛ لأنهم يسمعون الأغاني.
تحدَّت مُنى علي العادات والتقاليد المتزمِّتة، والمنع والمضايقات التي واجهتها من أسرتها، ورفعت صوتها بالغناء لتكون رائدة المرأة اليمنية في الفن.
وفي زمن الخراب، يرتفع صوت عبدالله العُديني، في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، محرضا ضد الفن والغناء والنساء.
اثنان من العُدين؛ الفنانة رمزاً للفن ومعانيه الجميلة، والشيخ رمزاً للكراهية والنفور من كل ما هو جميل.
مفارقة عميقة تعكس التغيّرات الثقافية والاجتماعية، التي مرت بها اليمن بين زمن الثورة والجمهورية والأحلام الكبيرة في ستينات القرن العشرين، وزمن الانهيارات وانبعاث الماضويات من مراقدها في بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.
الفنانة مُنى علي تمثل رمزاً للتحدِّي والتمرّد على القيود الاجتماعية الصارمة في كفاحها للتمسك بموهبتها وشغفها بالفن والإبداع، وهي قصة تُبرز كيف كانت المرأة اليمنية قادرة على كسر التقاليد السائدة بإرادة قوية وشجاعة، على الرغم من كل ما واجهته من مضايقات اجتماعية وأسرية.
في المقابل، ارتفعت نبرة المجاهرة بالقبح من شخصيات؛ مثل عبدالله العديني، الذي يروّج -بدأب- خطاباً تحريضياً ضد الفن والغناء والمرأة، يعكس مناخاً كئيباً من الكراهية، وانحسار مساحة التسامح الثقافي وقبول التنوع.
هذا التناقض بين زمنين يثير تساؤلات حول مسار التحولات الفكرية والاجتماعية في اليمن، خاصة مع تزايد تأثير الجماعات التي تضيِّق الخناق على حرية التعبير والفن في جهات اليمن الأربع.
هذه المفارقة لا تتعلق فقط بالأفراد، بل هي انعكاس لظروف سياسية وثقافية أوسع؛ أثرت على المجتمع اليمني، حيث نجد أن الفن الذي كان يُعدّ رمزاً للتقدم والانفتاح، في وقت ما، أصبح في عيون القبح الصاعد ممنوعاً ومُحرَّماً وهدفاً للانتقاد والتحريض.
الخطاب التحريضي اليوم والقيود التي تُفرض على المرأة في اليمن، مع صعود الجماعات المتطرفة، تجعلنا نرى مُنى علي أكثر إشراقاً وشجاعة، ونلتفت لإرثها الغنائي بإعجاب ممزوج بامتنان وتقدير عالٍ لإمرأة رائدة في تاريخنا الفني.
الكتابة عن مُنى علي ليست مجرد احتفاء بالماضي، بل دعوة لاستلهام الشجاعة التي أظهرتها، ولإعادة التفكير في كيفية تعزيز دور المرأة اليمنية اليوم.
الفن كان دائماً سلاحاً ضد القبح والتطرف، ومجالاً للتغيير الاجتماعي، وتذكُّرنا للفنانة مُنى علي، وإرثها الفني، هو رسالة بضرورة استمرارية هذا الدور.
عندما يتسع الخراب، ويتمدد القُبح، وتُجاهر أشباح الماضي بكراهيتها لكل جميل، ويرتفع صوتها بالتحريض، يكون الفن والإرث الغنائي والثقافي لهذه البلاد هو عُمقنا الجمالي، ومصدر قوتنا الأمضى في مواجهة كل قبيح.