تقارير
"عاصفة الحزم" بعد 10 سنوات.. كيف أعادت تعريف النفوذ السعودي في المنطقة؟
عندما قادت السعودية تحالفا عسكريا وأطلقت عملية "عاصفة الحزم" في اليمن، في 26 مارس 2015، لم يكن هدفها يقتصر على دعم السلطة اليمنية الشرعية لإنهاء الانقلاب الحوثي والتصدي للنفوذ الإيراني، بل برز منذ اللحظة الأولى هدف إستراتيجي أوسع وهو إعادة تشكيل الدور السعودي في المنطقة، والتحول من نهج القوة الناعمة إلى تبني القوة الخشنة كأداة رئيسية لترسيخ النفوذ الإقليمي للمملكة، وتعزيز موقعها كقوة قائدة في العالم الإسلامي السني في مواجهة توسع النفوذ الإيراني، الذي كان ولا يزال يشكل تهديدا جوهريا لليمن والسعودية ودول الخليج على حد سواء، بصرف النظر عن انهيار بعض مكونات المحور الإيراني في المنطقة.
كانت عملية "عاصفة الحزم" تحولا كبيرا ومفاجئا في السياسة السعودية الخارجية، لكن كان هناك ما يبرر ذلك التحول الذي جاء في سياق إقليمي ودولي متغير، فالمظلة الأمنية الأمريكية التي اتكأت عليها المملكة طويلا بدأت في الانحسار تدريجيا منذ عهد الرئيس باراك أوباما، الذي تبنى إستراتيجية الانسحاب من الشرق الأوسط والاهتمام بالتحديات الكبرى لبلاده التي تشكلها الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
وفي الوقت ذاته، كانت المنطقة تشهد تصاعد النفوذ الإيراني والتركي، وهو ما كان يثير قلق السعودية التي كانت ترى أن ذلك يمثل تهديدا مباشرا لتوازن القوى في الشرق الأوسط، مما دفعها إلى الإسراع في شراء الأسلحة الحديثة والنوعية، والبحث عن استقلالية أكبر في قراراتها الأمنية والعسكرية.
كما أن موجات ثورات الربيع العربي، التي أطاحت بعدد من أعتى الأنظمة العربية، أثارت مخاوف الرياض من انتقال عدوى الثورات والتغيير إلى الداخل السعودي، أو أن تفرز تلك الثورات حكومات عربية جديدة ذات نفوذ واسع يقلص دور السعودية التقليدي في العالم العربي.
هذه التطورات شكلت دافعا للسعودية للتحول من القوة الناعمة إلى القوة الخشنة لترسيخ نفوذها وحماية سلطة العائلة الحاكمة، فتبنت إصلاحات واسعة في الداخل، وتصدرت الحرب على ثورات الربيع العربي، ومواجهة النفوذ الإيراني انطلاقا من اليمن.
وبعد مرور عشر سنوات على عملية "عاصفة الحزم"، هل نجحت السعودية في تحقيق أهدافها وتوسيع نفوذها الإقليمي، أم أن التطورات والأحداث اللاحقة قادت إلى تآكل ذلك النفوذ وزيادة انكماشه؟ وهل أصبحت السعودية قوة إقليمية مؤثرة وقادرة على فرض سياستها، أم أن مؤامراتها وفشلها في اليمن وتخبط سياستها الخارجية والتحديات المستمرة أظهرت عجزها وعدم قدرتها على التأثير في المنطقة حتى في الملفات التي لها اليد الطولى فيها، وهو الملف اليمني؟
- أول حرب بقيادة مباشرة من المملكة
كانت السعودية قد خاضت أو شاركت في عدد من الحروب أو التدخلات العسكرية، بدءا من الحروب التي خاضها الملك عبد العزيز آل سعود لتوحيد أراضي وسط الجزيرة العربية تحت راية الدولة السعودية الثالثة (1902-1932)، ثم مشاركة المملكة في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948 لدعم الجيوش العربية في فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودعم الملكيين الإماميين في اليمن ضد الجمهوريين خلال الحرب التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر 1962، واستضافة قوات التحالف الدولي على أراضيها الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي (1991)، والتدخل العسكري ضد الحوثيين في صعدة بعد تعرض أراضيها لهجمات عبر الحدود في ما عُرف بـ"الحرب السادسة" بين الحكومة اليمنية والحوثيين (2009-2010).
لكن عملية "عاصفة الحزم" كانت أبرز تدخل عسكري مباشر للسعودية خارج حدودها منذ عقود، وأول حرب تُدار بقيادتها مباشرة وضمن تحالف عربي واسع، وتهدف إلى تحقيق أهداف إقليمية كبرى، مما يجعلها متميزة عن الحروب السابقة من حيث النطاق والتخطيط العسكري، وقد مثلت تلك العملية اختبارا حقيقيا لقدرة المملكة على قيادة تحالف عسكري وإدارة عمليات قتالية في بيئة جغرافية وعسكرية شديدة التعقيد.
ورغم مرور عقد على انطلاق "عاصفة الحزم"، فإن نتائجها لا تزال محل جدل واسع، خصوصا ما يتعلق بالقدرات العسكرية للحوثيين، التي صارت اليوم أقوى مما كانت عليه أثناء انطلاق العملية، مع أن السعودية كانت تزعم أنها دمرت جميع أسلحة الحوثيين التي تشكل تهديدا مباشرا لها، مما يجعل التساؤلات مستمرة حول مدى نجاح الأهداف السياسية والعسكرية لـ"عاصفة الحزم"، وهل أظهرت المملكة كدولة حازمة وقوة خشنة يهابها خصومها، أم أنها بدت عاجزة عن المواجهة ومكشوفة أمنيا ومن السهل استباحة أراضيها ومنشآتها النفطية بعد أن كان لا يجرؤ أي طرف على الاعتداء عليها أو حتى تهديدها مجرد تهديد، خشية من رد فعلها واستنادها إلى الحماية العسكرية الأمريكية.
- ما سر التخبط في اليمن؟
لا شك أن عملية "عاصفة الحزم" في بدايتها أسهمت في كبح جماح الانقلابيين (تحالف علي صالح والحوثيين)، وأربكت خططهم للسيطرة على جميع أنحاء البلاد، أو كان لها دور في تقليل كلفة الحرب الأهلية على طريق استعادة الدولة، لكن لم يتم الحفاظ على الإنجازات العسكرية التي تحققت في بدء العملية والبناء عليها، لاسيما بعد أن كان الجيش الوطني على مشارف العاصمة صنعاء، وكان الانقلابيون في حالة انهيار، إذ سرعان ما ظهرت أجندة وأهداف مغايرة لتلك المعلنة بشأن التدخل العسكري.
فالمعارك توقفت في الحدود الشطرية قبل الوحدة، وبدأ التحالف السعودي الإماراتي في تغذية الانقسامات بين الأطراف اليمنية، وتشكيل مليشيات وكيانات مسلحة خارج إشراف وزارة الدفاع، ودعمها بالمال والسلاح، وتعطيل موارد البلاد، والاتجاه نحو تقاسم النفوذ بين الرياض وأبوظبي في المحافظات والجزر اليمنية التي لا يسيطر عليها الحوثيون، وتعزيزها بحضور عسكري لافت، وإنشاء مطارات وقواعد عسكرية.
وكان مثيرا أن السعودية كلفت ألوية عسكرية يمنية بحماية حدودها مع اليمن والتصدي لمحاولات الحوثيين التقدم نحو أراضي المملكة، بينما هي دفعت بألوية من قواتها العسكرية للتمركز في محافظة المهرة شرقي البلاد، البعيدة جدا عن مسرح العمليات العسكرية ضد الحوثيين، ولا يوجد فيها أي خطر أمني أو غيره يهدد المملكة أو يستدعي ذلك التواجد العسكري.
كما تقدمت القوات السعودية في عمق الأراضي اليمنية خلف الخط الحدودي في محافظات الجوف وحضرموت والمهرة، وأزاحت الجيش اليمني الذي كان متواجدا فيها، بذريعة حماية حدودها، والهدف الحقيقي هو ترسيخ الاستيلاء على تلك الأراضي، بالرغم من أنه تم إغلاق الملف الحدودي بين البلدين بعد مفاوضات استمرت عدة سنوات انتهت باتفاقية جدة الحدودية عام 2000، والتي حددت الحدود بين البلدين بشكل رسمي، وأنهت الخلافات حول بعض المناطق المتنازع عليها، خصوصا في الربع الخالي.
ما سبق يعكس بعض أسباب تخبط السعودية في اليمن، فقد تدخلت عسكريا في البلاد وهي محملة بإرث ثقيل من الأطماع والأحقاد والمؤامرات والهواجس الأمنية، لدرجة أفقدتها الصواب أو القدرة على ترتيب الأولويات أو حتى جعل أمنها القومي على المدى الطويل هو المعيار الأساسي للتعامل مع الملف اليمني، لكن ما هو ظاهر أن أمنها صار في ذيل الأولويات لغلبة الملفات الأخرى، لأنها ترى أن هذه المرحلة فرصة تاريخية لن تتكرر لتصفية جميع أطماعها وحساباتها مع اليمن المؤجلة والطارئة.
لقد تدخلت السعودية عسكريا بهدف القضاء على الحوثيين وقطع يد إيران في اليمن، وفي الوقت نفسه لا تريد لليمن الاستقرار، وترى أن القضاء على الحوثيين سيكون بمنزلة إزاحة عقبة كبيرة أمام ثورة 11 فبراير 2011 لتحقيق أهدافها، كما أنها تخشى من أن القضاء على الحوثيين سيجعل الساحة السياسية في اليمن تخلو لحزب الإصلاح باعتباره أقوى حزب سياسي في البلاد بعد تفكك حزب المؤتمر، ولا يوجد كيان بديل مقبول بإمكانه الهيمنة السياسية في اليمن، ويكون منفذا للإملاءات السعودية، وجعل البلاد تحت هيمنتها.
وهناك ملفات أخرى تدفع السعودية إلى جعل اليمن في حالته الراهنة لأطول مدة ممكنة والحرص على بقاء الحوثيين كذريعة لتحقيق جملة من الأهداف، يأتي في مقدمتها أن هيمنة الحوثيين في شمال البلاد ستحفز أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية للالتفاف حول مشروع الانفصال كتعبير عن الرفض للحوثيين، مع تغذية الانقسامات في الجنوب أيضا، مثل تلويح أبناء حضرموت بالانفصال عن الجنوب في حال نجاح مشروع انفصال الجنوب عن الشمال.
وستكون محصلة كل ذلك تفتيت اليمن وإضعافه، لتسهيل السيطرة على بعض أراضيه، وضمها إلى أراضي المملكة بالقوة، بعد أن يصل اليمنيون إلى العجز عن الدفاع عن أراضيهم التي تثير شهية المملكة، مثل النفط والثروات المعدنية في المناطق الحدودية، والمنافذ أو الموانئ التجارية المطلة على بحر العرب والمحيط الهندي.
- نتائج عكسية
كانت السعودية تأمل، من خلال عملية "عاصفة الحزم"، في تعزيز نفوذها في الإقليم، والظهور بمظهر الدولة الإقليمية القوية القادرة على التأثير في مجريات الأحداث، لكنها وجدت نفسها تواجه نتائج عكسية أدت إلى تراجع هذا النفوذ، وهذا يستدعي منها إعادة تقييم السياسات والإستراتيجيات المتبعة، والعمل على تبني نهج أكثر توازنا وفعالية في التعامل مع التحديات الإقليمية.
صحيح أن السعودية غرقت في المستنقع اليمني بسبب تعدد أهدافها وتناقضها ومؤامراتها على وحدة اليمن واستقراره ونظامه الجمهوري وأطماعها في أراضيه وموانئه وخوفها من أن يستقر ويصير منافسا لها، لكن هذا لا يبرر عجزها العسكري أمام مليشيا الحوثيين وفشلها في القضاء عليها مع أنها أكبر خطر مستقبلي يهدد أمن المملكة، وهذه المسألة تحديدا كانت مثار سخرية في الإعلام الغربي، الذي كان يتساءل: إذا كانت السعودية التي تريد قيادة العالم الإسلامي السني قد فشلت في مواجهة مجموعة صغيرة متمردة في شمال اليمن فكيف ستواجه إيران؟
والمريب أن السعودية عممت عجزها أمام الحوثيين على مختلف المكونات اليمنية المنضوية في السلطة الشرعية والمناهضة للحوثيين، والتي صارت جميعها رهينة للعجز السعودي، وهذا الفشل أضعف موقف المملكة وأدى إلى تآكل نفوذها الإقليمي، مما جعلها تبدو أقل قدرة على التأثير في مجريات الأحداث، وأصبحت تحركاتها تأتي بنتائج عكسية، فتدخلها العسكري في اليمن بهدف القضاء على الحوثيين، كانت نتيجته أن الحوثيين عززوا قوتهم وسيطرتهم في معظم محافظات شمالي البلاد وطوروا قدراتهم العسكرية، مما جعلهم أكثر تهديدا للمنطقة، وصار بحوزتهم صواريخ وطائرات مسيرة قادرة على الوصول إلى جميع أراضي المملكة.
وبعد أن اتضح عجز السعودية أمام الحوثيين، لم يكن أمامها من خيار سوى الانحناء أمام إيران ومليشياتها في المنطقة، وترك الخيار العسكري، والعودة إلى التصالح، والتراجع عن سباق النفوذ في المنطقة، وكانت أهم نقطة في هذا التحول هي المصالحة مع إيران برعاية صينية، والبدء في تحسين علاقتها مع شيعة العراق (النخبة الحاكمة)، كما أعادت علاقتها الرسمية مع بشار الأسد قبل انهيار نظامه، وتعكس هذه التطورات انحناء السعودية أمام إيران ووكلائها، بعد فشل خيار المواجهة العسكرية أو استغلال الفرص لإضعافهم.
ورغم تقلص النفوذ الإيراني في بعض الساحات الإقليمية مؤخرا، إلا أن ذلك لم يكن بفضل السياسة السعودية، بل جاء نتيجة عوامل أخرى لا علاقة للمملكة بها، فمثلا كان انهيار نظام بشار الأسد نتيجة للثورة السورية التي اندلعت ضمن موجة الربيع العربي، وهي ثورات كانت السعودية في طليعة الدول التي سعت لإجهاضها، خوفا من انتقال عدواها إلى الداخل السعودي.
يضاف إلى ذلك أن انهيار حزب الله اللبناني مؤخرا لم يكن بسبب جهود سعودية، بل كان من تداعيات عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل، ولولا تلك العملية لما قصفت إسرائيل مخازن أسلحة الحزب واغتالت قياداته. والمفارقة أن السعودية تعادي حركة حماس والحركات الإسلامية بشكل عام وثورات الربيع العربي، بينما كانت هذه الحركات والثورات هي التي ساهمت في تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة.
كما أن فشل السعودية العسكري في اليمن كان من نتائجه بروز دولة الإمارات كلاعب أكثر حنكة وتأثيرا في المنطقة، حيث عملت على توسيع نفوذها في جنوب اليمن وموانئه وجزره، كما عززت تحالفاتها الإقليمية بعيدا عن السعودية، مما أدى إلى تراجع الدور التقليدي للمملكة في الخليج والعالم العربي.
أخيرا، أظهر فشل حسم المعركة ضد الحوثيين حدود القوة العسكرية للسعودية، فالفشل في القضاء على جماعة مسلحة صغيرة يثير التساؤلات حول مدى قدرتها على مواجهة تحديات أكبر، مثل المواجهة مع إيران أو أي قوة إقليمية أخرى، مما أفقد المملكة الكثير من تأثيرها الإقليمي، ولم يعد أمامها من خيار سوى التصالح والتكيف مع الوضع بدلا من الاستفادة من الفرص المتاحة لإعادة فرض نفوذها.
ويمثل كل ذلك نتيجة طبيعية لأدائها العسكري المتعثر في اليمن، الذي أدى إلى تآكل هيبتها، وكشف نقاط ضعفها الأمنية، لاسيما بعد الهجمات الحوثية على منشآتها النفطية التي أفزعتها وعطلت صادراتها النفطية لمدة قصيرة، وعجزها عن حماية تلك المنشآت، مما دفعها للانحناء أمام المحور الإيراني، تحت ستار التصالح والحلول السلمية.