تقارير
ما تأثير الوظيفة العامة والمال السياسي على مطالب انفصال جنوب اليمن؟
قناة بلقيس - عبد السلام قائد
بعد اندلاع الحراك الجنوبي المطالب بانفصال جنوب اليمن، في الربع الأول من العام 2007، كانت محافظة الضالع تتصدر المحافظات الجنوبية في حجم المظاهرات للجماهير المطالبين بالانفصال، حينها فتح نظام الرئيس علي صالح باب التجنيد في الجيش، ضمن أساليبه لتشتيت الحراك، فانضم إلى الجيش عدد من الذين كانوا يشاركون في المظاهرات ويرفعون شعارات الانفصال في شوارع مدينة الضالع، وبعد مدة قصيرة من التدريب، يتم الزج بهم سريعا في حروب صعدة العبثية حينها، فيعود معظم هؤلاء محمولين على الأكتاف جثثا هامدة، دفاعا عن "الدولة اليمنية الموحدة" ضد مليشيات الحوثيين، بعد أن كانوا بالأمس يرفعون شعارات تطالب بانفصال جنوب اليمن.
مثل هذا المشهد يختصر حكاية طويلة للدور المؤثر للوظيفة العامة والمال السياسي في المشهد اليمني شمالا وجنوبا، وسيقتصر الحديث هنا على دور الوظيفة العامة والمال السياسي في صعود وأفول الحراك الجنوبي الانفصالي وتقلباته وتحولاته، وكيف كان تأثير ذلك في تحويل "القضية الجنوبية" إلى مزاد للابتزاز السياسي أكثر من كونها قضية شعب، وكيف فتح ذلك ثغرات لتنامي الدور الإقليمي المؤثر سلبا في المشهد اليمني، والمُحَصِّلة هي خدمة قوى إقليمية استبدادية وغير ديمقراطية، تعمل على تفتيت المجتمع اليمني وهدمه وتفكيكه، ثم إعادة تشكيله وفقا لتقسيمات مناطقية تعززها هُويات صغيرة متناحرة، بما يخدم مصالح تلك القوى في الهيمنة الإقليمية ووأد أي محاولات للتحول الديمقراطي وإنهاء عهود الاستبداد.
- البدايات الأولى
لماذا تهدأ مطالب انفصال جنوب اليمن كلما تم إشراك بعض قادة الانفصال في حكومة الجمهورية اليمنية؟ ولماذا تعود تلك المطالب بقوة كلما تمت إزاحتهم من مناصبهم؟ لقد ارتبطت معظم الأزمات المتعلقة بالوحدة اليمنية بالعامل المادي، وكان الخلاف على طريقة تقاسم "كعكة دولة الوحدة" من أسباب الارتداد عن الوحدة وإعلان فصيل من الحزب الاشتراكي انفصال جنوب اليمن عام 1994، مما تسبب باندلاع حرب أهلية انتهت بهزيمة مشروع الانفصال وهروب قادته خارج البلاد.
وعندما ظهر الحراك الجنوبي السلمي، في الربع الأول من العام 2007، بعد تشكيل جمعيات المتقاعدين المدنيين والعسكريين والمسرحين من وظائفهم على خلفية حرب صيف 1994، التي تطالب بتسوية أوضاع المسرحين والمقاعدين وتعويضهم وإعادتهم إلى وظائفهم، كان قمع الحراك من جانب، وبدء تدفق المال السياسي من جانب آخر، من العوامل التي زادت في حدة الحراك، وتحوله من حراك حقوقي إلى حراك سياسي يطالب بانفصال جنوب اليمن، كوسيلة ضغط على نظام الرئيس علي صالح للاستجابة لمطالب جمعيات المتقاعدين المدنيين والعسكريين، غير أن هناك من استغل حالة السخط الشعبي تلك، وحرفها في اتجاه آخر.
بدأ المال السياسي بالتدفق، بشكل محدود، من قبل ما يسمى "المعارضة الجنوبية" في خارج اليمن، لدعم التظاهرات المطالبة بالانفصال، فتسبب ذلك في ظهور العديد من الفصائل الحراكية المطالبة بالانفصال، التي كان يطمع قادتها في الحصول على أموال من هنا وهناك، خاصة بعد أن بدأت إيران بتقديم الدعم لبعض تلك الفصائل. وفي المقابل، شكّل نظام علي عبد الله صالح ما سماها "لجان الدفاع عن الوحدة" من الجنوبيين الموالين له، والذين دفع بهم للصدام مع إخوانهم الجنوبيين المطالبين بالانفصال، وكان يمنحهم "المال السياسي" مقابل عملهم في الاعتداء على تظاهرات الحراك الانفصالي. ونظرا لحالة الفقر التي كانت سائدة في شمال الوطن وجنوبه، وكان المقاعدون والمسرحون من وظائفهم الأكثر معاناة من بقية الفئات، فقد وجد المال السياسي طريقا مفتوحا أمامه لتأجيج المشهد برمته، وتمكن من التأثير على مجريات الأحداث، قبل أن تأتي ثورة 11 فبراير 2011، التي كانت خلاصة النضال الوطني شمالا وجنوبا ضد الفساد والفقر والجوع، وصنعت واقعا جديدا أربك المشهد اليمني بكامله وليس مطالب انفصال جنوب البلاد فقط.
- تخدير السلطة
عندما تم تشكيل حكومة الوفاق الوطني، برئاسة محمد سالم باسندوة، في ديسمبر 2011، تم تعيين عدد من المحسوبين على الحراك الجنوبي في تشكيلة الحكومة الجديدة، وبعضهم تم تعيينهم في مناصب أخرى مهمة، فأسهم ذلك في تلاشي الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال تحت تخدير المناصب الحكومية، غير أنه بعد اندلاع عملية "عاصفة الحزم" وطرد الحوثيين والقوات الموالية لعلي صالح من العاصمة المؤقتة عدن، بدأت دولة الإمارات بتشكيل مليشيات خارج سلطة الدولة، وتمدها بالمال والسلاح، وبدأ المال السياسي والسلاح السائب يشكلان قلقا للسلطة اليمنية الشرعية.
وعندما أصدر الرئيس عبد ربه منصور هادي قرارات بإقالة قيادات انفصالية من مناصبها، في أواخر أبريل 2017، على رأسهم محافظ عدن عيدروس الزبيدي، ووزير الدولة هاني بن بريك، عادت مطالب الانفصال من جديد، وتم تأسيس ما أطلق عليه "المجلس الانتقالي الجنوبي" بدعم وتنسيق إماراتي، وكان التصعد هذه المرة مسلحًا، ودخل جنوب اليمن مرحلة جديدة من الاضطرابات الأمنية والسياسية، بلغت ذروتها في أغسطس 2019، إثر الاشتباكات بين القوات الحكومية ومليشيات المجلس الانتقالي، ثم قصف الطيران الحربي الإماراتي وحدات من الجيش اليمني لحظة استعدادها لاستعادة السيطرة على العاصمة المؤقتة عدن بعد أن أحكمت مليشيات المجلس الانتقالي السيطرة عليها.
ورغم أن دعاة مشروع الانفصال لم يستطيعوا فرض مشروعهم كأمر واقع، رغم حالة التدافع السياسي والعسكري في جنوب اليمن منذ ذلك الحين، ورغم الصراع الذي نشب بين مليشيات الانفصاليين المدعومة إماراتيا والسلطة اليمنية الشرعية، غير أن الانفصاليين عادوا مجددا للشراكة في السلطة ضمن حكومة الجمهورية اليمنية (دولة الوحدة)، وتراجعوا عن مطالب انفصال جنوب اليمن تحت إغراء المناصب، لكنهم سيعودون لمطالب الانفصال، والتلويح بالسلاح وشن الحرب لتحقيق ذلك، في حال تم عزلهم أو إقالتهم من السلطة الشرعية، هذا إذا لم يكن هناك سيناريو تصعيدي تخطط له دولة الإمارات، وتهدف منه لزعزعة استقرار جنوب اليمن، ونقل مطالب الانفصال خطوات إلى الأمام.
- المال السياسي والخلاف المناطقي
لم ينجح المال السياسي في رأب التصدعات المناطقية في جنوب اليمن، بل فهو في أحيان كثيرة يزيد من حدتها، كما أنه لم ينجح في نقل مشروع انفصال الجنوب إلى مرحلة متقدمة، نظرا لحالة الرفض الشعبي في عدة محافظات جنوبية للانفصال، خوفا من الممارسات العنيفة والتسلط المناطقي، مما جعل مطالب الانفصال تتراجع، ولم تعد موجودة إلا في أوساط مليشيات مسلحة تدعمها دولة الإمارات بالمال والسلاح، وسيظل المال السياسي والسلاح السائب الركيزتين الأساسيتين اللتين تستند عليهما دولة الإمارات وغيرها من القوى الإقليمية "المارقة" في دعم الفوضى في البلاد.
وقد أحيت مطالب الانفصال ثارات تاريخية بين الجنوبيين أنفسهم، لم تتمكن ما أطلق عليها "ملتقيات التصالح والتسامح" من ردمها وتجاوز آثارها، وزاد الطين بلة مشاهد الاعتداءات البشعة التي نفذها مسلحون من مليشيات المجلس الانتقالي، بعد أحداث أغسطس 2019، بحق عدد من أبناء المديريات والمحافظات الجنوبية الأخرى، الذين كان لهم دور رافض لمليشيات المجلس الانتقالي، حتى لا تتكرر مشاهد الدم والدمار والانقسامات المناطقية، التي تغذيها دولة الإمارات، والخاسر الوحيد منها هو المجتمع اليمني. وفي كل الأحوال، ستظل الوظيفة العامة والمال السياسي من أبرز العوامل المؤثرة في تحولات وتقلبات مطالب انفصال جنوب اليمن.