مقالات
قصة "المؤتمر"
بعد أربعين عاماً ونيف من تأسيسه، بات واضحاً أن المؤتمر الشعبي العام قد انتهى ولم يعد لديه مُمكنات البقاء، أو فرصة العودة في المستقبل القريب.
تغيّرت معادلات القوة والنفوذ، وسقطت بلاد بأكملها في الحرب والانقسامات، ونهاية المؤتمر هي الأمر الطبيعي وليس بقاءه.
كان المؤتمر الشعبي العام هو الغطاء السياسي للمعادلة السائدة لتوزيع القوة والنفوذ في البلد، ومثل صيغتها السياسية كما أرادها ورسمها وعمل من أجلها علي صالح، الذي جمع الخيوط كلها بيده في فترة حكمه، التي تجاوزت الثلاثين عاما.
تعود فكرة تأسيس تنظيم سياسي لقوى السلطة في شمال اليمن إلى الفترة التي أعقبت انقلاب 5 نوفمبر 67، حينها كان البحث جاريا عن صيغة لإطار سياسي يحتوي القوى التقليدية وقوى النفوذ والسلطة التي تجمعت لتقف جداراً معيقاً للقوى الجمهورية ومكوناتها الحية، عقب نجاحها في الإنقلاب على الرئيس عبدالله السلال، لكن أحداث متوالية حالت دون إنضاج الفكرة ووضعها موضع التطبيق.
لاحقاً، عادت الفكرة في فترة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي. تغيّرت طبيعة السلطة وتوجهاتها، ولكن الحاجة إلى تنظيم سياسي بقيت مُلحة وبنداًً أساسياً في برنامجه، غير أن التسارع الكبير في صراعه مع القوى التقليدية، واغتياله في وقت مبكر بعد أقل من ثلاث سنوات على بداية حكمه قد حال دون أن تتحول هذه الفكرة إلى واقع.
مع صعود صالح للرئاسة، عادت الفكرة بقوة إلى سيرتها الأولى. التقط صالح الفكرة التي كانت قد طرحت بصيغة تنفيذية في فترة الحمدي.
كانت رئاسته متطابقة مع مضمون انقلاب 5 نوفمبر وقواه وتوجهاته. توجّه يجرم الحزبية، ويبحث عن تظيم سياسي ليكون أداة لقوى السلطة في مواجهتها. تنظيم لا ينبع من الإقرار بالحياة الحزبية والتعددية، وإنما أداة لاحتوائها بعد أن نجحت القوى التقليدية في تنفيذ برنامج دموي لإزاحة قوى الجمهورية الفتية، بالحروب والتصفيات والاغتيالات، والإبعاد والعَزل.
كانت القوى الوطنية قد أسست عددا من الأحزاب والتنظيمات السرية بعد أن كان عنوان "حركة القوميين العرب" قد جمعها لفترة محدودة.
في الجنوب، كانت الجبهة القومية قد أنجزت الاستقلال ووحدت السلطنات، وبات نهجها الوطني وخطها الاجتماعي واضحاً، ومثل ذلك قاسمها المشترك مع الأحزاب اليسارية والقوى الوطنية في شمال الوطن.
من هنا كانت غاية تأسيس المؤتمر الشعبي العام في صنعاء هي تأطير القوى التقليدية الممسكة بالسلطة في تنظيم سياسي، أحد أهدافه احتواء قوى اجتماعية وشخصيات سياسية متنوعة في إطار تنظيم يكون غطاءً للسلطة الحقيقية وأداة لها في المناورة مع الجنوب وحلفائه في الشمال.
في هذا العنوان السياسي، تجسّدت فكرة أخرى كان الحمدي قد حاول ملامستها، وأقصد تحديداً علاقته بالإخوان المسلمين. كان الحمدي في صف القوى الوطنية أثناء رئاسته للدولة، ومع ذلك كان تأسيس "المعاهد العلمية" كتعليم موازي قد تم في عهده. ربما كان يحاول الاقتراب من كل القوى لاجتذابها للمشاركة في برنامجه لإدارة البلاد، وكان اقترابه من الحزب الديمقراطي والناصريين أكبر بكثير من مجرد قرينة عابرة تدل على أنه لا يمانع من اجتذاب الإخوان وإقامة علاقة ما معهم. وربّما يُفسر ذلك القرار أن بداية حكمه كانت متوائمة مع السعودية قبل أن تتحول إلى النقيض في وقت لاحق بعد اغتيال الملك فيصل، وظهور توجهاته المناقضة لسياسة الهيمنة السعودية وأدواتها في اليمن. وهو تناقض دفع حياته ثمناً له.
تطور الأمر، بداية الثمانينات، إلى تحالف إستراتيجي بين صالح والإخوان المسلمين. تحالف قائم على تطابق تام في التوجهات التقليدية، والعداء للقوى الجديدة، والتنافر مع الحزب الاشتراكي في الجنوب، وما يحظى به هذا التوجّه من دعم سعودي أمريكي تحت مسمى "مُحاربة الشيوعية"
في تأسيس "المؤتمر الشعبي العام" كان الإخوان المسلمين شركاء متناغمين مع حليفهم الإستراتيجي صالح، التحالف الذي ظهرت مفرداته في بنى السلطة الأمنية والتعليم وكافة المؤسسات، خلافا لمشاركة شخصيات اجتماعية وحزبية في تأسيس المؤتمر، لم يكن لها المساحة نفسها في بنية السلطة والحكم.
لم يغير "المؤتمر" منذ لحظة تأسيسه من طبيعة علاقة صالح ونظامه مع القوى الوطنية. يكفي أن نتذكر ما حدث للدكتور عبدالسلام الدميني وشقيقيه، فقد وصل إلى صنعاء للحوار، وعاد محمولاً في تابوت بعد اغتياله هو وأخويه في إحدى ضواحي صنعاء وهما في طريقهما لمغادرتها.
بعد أربعة عقود من تأسيسه يبدو واضحاً أن المؤتمر كان غطاء لتوجهات؛ هدفها اجتثاث الأحزاب والقوى السياسية الأخرى في الساحة اليمنية.
فرض الحزب الإشتراكي شرط "التعددية السياسية" لتتوافق مع إعلان الوحدة في 22 مايو 90؛ جعل من المرحلة الانتقالية "1990-1993" ربيع يمني مبكر، صدرت عشرات الصحف، وتأسست أحزاب عديدة متنوعة إضافة إلى إعلان الأحزاب السرية عن نفسها في مرحلة النشاط السياسي المعلن. انتعشت الحياة بنقابات مهنية قوية؛ للصحفيين والمحامين والأطباء والعمال وغيرها.
غير أن حرب 94 التي حركتها رغبات دفينة في القضاء على الحزب الاشتراكي وضم الجنوب، قد قضت على هذا الربيع المبكر، ووجّهت ضربة موجعة لمضمون الوحدة اليمنية، بإفراغها من الشراكة الوطنية، وانفراد صالح وعائلته وحلفاؤه القبليون والعسكريون بالسلطة المطلقة في اليمن.
وجود "المؤتمر" في 94 لم يكن له أثر في ترجيح السياسة على الحرب، ذلك أن سلطة القرار تقع في أيدي قوى النفوذ وليس في التنظيم السياسي الطافي سطحها.
وإذا ما اختصرنا الفترة الممتدة من 1994 - 2010، نستطيع أن نصفها بالقول إن المؤتمر الشعبي العام استخدم فيها لتثبيت السلطة المطلقة، زوّرت الانتخابات واستخدمت "الأغلبية المطلقة والكاسحة" في إعادة تفصيل الدستور على مقاس الحاكم بأمره، وكانت قد وصلت حال اليمن قبل ثورة 2011 إلى مقترح "خلع العداد" من أجل تأبيد السلطة في شخص علي صالح وعائلته.
الصيغة الجديدة لمعادلة القوة والنفوذ السائدة اليوم في اليمن المنقسم والمثخن بعشر سنوات من الحرب والانقسامات، لم تعد بيئة ملائمة لبقاء "المؤتمر الشعبي العام"، الذي كان أداة الرئيس صالح في نهجه الذي هيُئ البلاد لشيء واحد: الانهيار الكبير. الانهيار الذي عززه في سنواته ما بعد 2011 بنهج شمشون: عليَّ وعلى أعدائي وعلى البلاد كلها.
الآن، ومع حالة اللادولة والحرب والانقسامات وموت السياسة والأحزاب والنقابات، يعاد صياغة معادلات القوى والنفوذ بشكل جذري. هذه الصياغة لا زالت مفتوحة وسائلة.
وإذا كانت السياسة قد أخلت مكانها للعنف والحرب، وكشفت عن نهاية أحزاب لم يعد لها من تاريخها سوى الاسم، فإن نهاية المؤتمر الشعبي العام تبدو مكتملة وغير مشروطة بنهاية الحرب وعودة الحياة السياسية.
نهاية صالح الدامية كانت إلى حد كبير نهاية للمؤتمر الشعبي العام. موت صالح يطوي صيغة المعادلة القديمة للنفوذ، التي كان المؤتمر عنوانها السياسي.
المؤتمر الشعبي العام مات بموت علي صالح. حكم صالح اليمن بالجيش والقبيلة والعصبية العائلية، وكان المؤتمر الشعبي العام غطاء سياسي صوري للنواة الصلبة للحكم وليس صانع قرارها.
ومن دونه، كشخص ومنظومة، لا وجود للمؤتمر.
أين ستذهب القوى التي شكلت المؤتمر الشعبي العام تحت زعامة صالح، وهي متن القوى التقليدية العسكرية والقبلية التي استولت على السلطة وحصرتها في قبصتها منذ اواخر الستينات، مضافا إليها المخزن السياسي والدبلوماسي والإداري بنخبه ورموزه، وكل مفاعيله التي ورثها صالح وأضاف إليها، وكانت تستخدم في جسم الدولة الشكلي الحديث وواجهتها الصورية؟!
وبصيغة أخرى، ما صيغة معادلة القوة والنفوذ التي ستتشكل على أنقاض النظام القديم.
الإجابة النهائية عن هذا السؤال متعذرة الآن. ما موجود اليوم هو قوى أمر واقع، خرجت من بؤر الانقسامات والأزمات التي أوجدتها سياسات صالح ونهجه "الجنوب -صعده - المشترك"، وكان قد عجز عن احتوائها في زمن الاستقرار وهو سيد قراره في صنعاء.
هناك سباق محموم تمسك بمفاعيله القوى الإقليمية والدولية خارج اليمن؛ لإعادة تشكيل صيغة معادلة القوة والنفوذ في اليمن، يمن اللادولة والتشظي والانقسامات.
غير أن هناك أمر واضح في إعادة التشكيل هذه، أن المؤتمر انتهى برحيل صالح. لن يكون قادرا على البقاء. هو لم يكن حزبا، وإنما غطاء سياسي لمنظومة صالح الفعالة.
غياب "الناظم" لهذه المنظومة يفككها. لقد بنيت حوله ومن أجله كجماعات مصالح ونفوذ وسلطة ووجاهات محلية. ولن تكون قادرة على التماسك والبقاء بدونه، وبمعزل عن السلطة التي كان قد صاغ معادلتها خلال عقود.
ربما تستمر شظايا النظام المتناثرة كعناوين هنا وهناك مع بعض كتل المنظومة الممزقة والمتفرقة، ولكن انتظامها واستعادة فعاليتها غير ممكن. لا سلطة قادرة على ذلك ولا حتى الفاعلون في الداخل والإقليم قادرون على منحها هذا الإسناد.
أحمد علي، الذي رُفعت العقوبات عنه مؤخراً، هو ورقة مستخدمة ضمن أوراق عديدة تمسك بها الإمارات وترتبها لهدف آخر يخصها، ولا علاقة له بأي أوهام ربما تداعب المهرولين للانتظام من حوله، لاستعادة فعالية المنظومة المفككة، وإعادة بنائها من مركز جديد خارج صنعاء التي ولد فيها المؤتمر، وحكم ووصل إلى أقصى مداه يومًا ما.