مقالات

ناصر الحميقاني، وشريف ناجي: أصوات اليمن المنسية

17/05/2025, 06:53:39

كانت اليمن تخفق في كل قلب وهي مقسِّمة إلى شطرين: شمالي وجنوبي. يتجلى ذلك في تاريخ الحركة الوطنية وأدبياتها ومسارها التاريخي من ثلاثينات القرن الماضي، إلى خطابها في دولتي سبتمبر وأكتوبر، في صراعاتها وحروبها مثلما في تقاربها واتفاقاتها، وصولاً إلى تحقيق الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 90.

قبل أن تُعلن الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990، كانت موحدة في وعي اليمنيين، في الشعر والفن والأدب، وفي وجدان يمني لم يأبه لخطوط الجغرافيا السياسية وبراميلها.

لكن ما الذي حدث لكل هذا الوهج اليمني؟ كيف اغتيل الحُلم في وعي الناس، واستبدل بانقسامات وكراهيات ودويلات وبراميل في كل قلب؟

لا طاقة لنا الآن للتحديق في الظلام.
لنغض النظر عن هذا المزاج العام المثقل بخيبات الصراعات وخيانات الساسة،
ونعود إلى جذور الحلم نستقصي ومضات التمعن في غناء اليمنيين وأناشيدهم، وأحلام أورقت في تاريخهم المعاصر، وانتماءات وطنية وإنسانية مثلت مضمون ثوراتهم التي أعادت الاعتبار للشخصية اليمنية وهويتها: ثورتي وجمهوريتي سبتمبر وأكتوبر، وذروة الفعل اليمني التاريخي: إعلان الوحدة في 22 مايو 90.

نعود إلى الفن، شعراً وغناءً، نستقصي في الأغاني اليمنية ومضات الحُلم، نتتبع في القصائد والأنشيد ملامح الوحدة الحقيقية: وحدة الانتماء والإحساس، وحدة القلب، وحدة المعنى.

الذاكرة المُغيبة: ناصر علوي الحميقاني وشريف ناجي

أجمل أناشيدنا الوطنية وجدت قبل إعلان دولة الوحدة في مايو 1990. كان اليوم الوطني لليمن تتويجاً ونتيجة لهذا الحلم النابض في أحاسيس اليمنيين ووعيهم بهويتهم الوطنية الجامعة.

"من كل قلبي أحبك يا بلادي .. يا يمن"

عذوبة الأغنية الوطنية تتجلى هنا كأنها توحد الوطنية والحُب في نغمة واحدة.
تتناغم أوتار العود وكلمات الأغنية مع إحساس مكثف في صوت أحمد قاسم.
أصغي لأوتار عوده، يتلاعب بها ويُنطقها كما لم يفعل فنان غيره.

يترنّم بالكلمات وقد امتزجت بعذوبة إحساسه ودفق روحه:
"مهما أسافر، واغيب عن عيونك. بقلبي أحبك، بروحي أصونك. وأعيش كل وقتي أداعب فنونك. لأنك حياتي حبيبتي، لأنك بلادي. من كل قلبي أحبك يا بلادي يا يمن".

أنظر في بيانات الأغنية، باحثاً عن كاتب الكلمات، أقرأ اسم الشاعر: ناصر علوي الحميقاني.

ليس متداولاً هذا الاسم، ولا يعرفه كثير من مستمعي الغناء اليمني وجمهوره والمهتمين به.

ظُلِم هذا الشاعر، وتوارى اسمه من الحضور ضمن أبرز مبدعي شعر الغناء اليمني، مع أن منجزه الشعري يضعه في الصف الأول بينهم.

ليس شاعر الأغنية الواحدة، لكي يبقى مُهملاً مجهولاً ومغيباً.

قرأت اسم هذا الشاعر الأنيق والمتميز بقصائده الغنائية أول مرة في أغنية أمل كعدل: أقسمت بالحب يا محبوب. قصيدة بديعة كتبها على نمط الشعر الحُميني.

بحثت أكثر، وفوجئت بشاعر كبير كتب أكثر من ثمانين قصيدة غنائية، وغنَّى من كلماته فنانين كبار:
الفنان محمد عبده زيدي "حبيب العمر، كفاية حب كفاية عذاب"، وأغنية وطنية شهيرة عنوانها "يا سلام يا تلال".
الفنان عوض أحمد غنى له عدة قصائد من ألحان محمد سالم بن شامخ: "يا جمال، بلبل سحرني جماله، وكفاية ذي حصل منك".
أمل كعدل غنت له 3 أغانٍ، أشهرها “أقسمت بالحب يا محبوب”.
وشكل مع الفنان والملحن فضل كريدي ثنائياً ناجحاً في أعمال عديدة، يبالغ البعض في القول إنها حوالي "45" أغنية  ومنها الأغنية الشهيرة "نسيتك وانتهى عهدك، مش مشكلة، أنا افتكرتك صديق، وحسك تصدق ضحكتي".

هذا شاعر غنائي من الطراز الأول، لا تقل قصائده تميزاً عن أشهر الأسماء، بل وتتفوّق أحياناً عليها في العذوبة والأصالة. لكن اسمه لم يُروّج، لم يُكرّم، ولم يُقرأ، بل توارى كما تتوارى اليمن كلها في غبار الحروب والصراعات المزمنة.

أجمل قصائده الغنائية: "أنت الحسيني بكله"، و"يا غائب متى با تعود"، وكانتا من أشهر الأغاني التي عرفتها عدن السبعينات والثمانينات. غناهما فنان متميّز، ولكنه مُغيّب من الذاكرة الفنية: الفنان شريف ناجي المصعبي.

كلاهما، الشاعر ناصر علوي الحميقاني والفنان شريف ناجي، تجمعهما زاوية التهميش مثلما يجمعهما الانتماء لقرية "زاره" في مديرية لودر بمحافظة أبين. وكلاهما تعود أصوله إلى محافظة شبوة، وولد لأب يجيد الشعر الشعبي والمساجلات الشعرية.

ناصر علوي الحميقاني لم يأتِ لكتابة الشعر الغنائي من كلية الآداب، بل من الجيش، إذ التحق بالقوات البحرية في العام 1957 أيام الإنجليز، وهو في السابعة عشرة من عمره، وعمل فيها حتى قصفت عمره باكراً مذبحة 13 يناير 86م.

كذلك الفنان شريف ناجي لم يأتِ للغناء من معهد فني، ولكنه درس القانون، "خريج المعهد العالي للقضاء في عدن، تدرج في سلك القضاء، وشغل وظائف قضائية في عدن وأبين حتى وفاته عام 2004".

ومع ذلك قادتهما رغبة ساكنة في القلب إلى كتابة الشعر والغناء، إلى جانب تخصصهما العملي.
أبدعا منجزاً شعرياً وغنائياً كبيراً، يقولان لنا من خلاله إن الروح المبدعة لا تعرف سلكاً وظيفياً يحاصرها، بل تنبع من مكان أعمق، من تلك البذرة الخفية التي إذا مسّها الحنين، أزهرت قصائد وأغانيَ، من داخل المعسكر ومن مِنصة القضاء في المحكمة.

يمكنك أن تتخرج مهندساً أو طبيباً، لكن الشعر والغناء لا تحددها شهادة تخرج.
الفن، شعراً وغناءً، يبدأ وهجه في داخل الذات، وإذا لم تتقد شعلته هناك لن يكون بمقدور أي دراسة لاحقة أن تخلقه من العدم.

الموهبة والشغف أصل الخلق الفني، والدأب والمران أدوات لصقلها.
"الحبل الدائم يقطع بالحجر"، ينفع في مجالات كثيرة ما عدا الشعر والغناء.

درس شريف ناجي القوانين وحفظ قانون العقوبات، لكن نغمة الفن في ذاته كانت أعلى من التخصص. في سجل الأغنية اليمنية أكثر من ثلاثين أغنية لهذا الفنان القاضي، كثير منها من كلمات الحميقاني، أشهرها: "أنت الحسيني بكله"، و"يا غائب متى با تعود"، وبعضها من كتاباته، وكلها تشهد على أن الفن ليس مهنة بقدر ما هو اندفاع داخلي، وموهبة تتوهج من حيث لا يتوقعها أحد.

قليلون من جمعوا بين الجديَّة والصرامة التي تفترضها شخصية القاضي، ورهافة الإحساس في شخصية الفنان.
في اليمن، عرفنا شعراء غنائيين كانوا قضاة، مثل: الشاعر علي العنسي، والمفتي، وعبد الرحمن الآنسي، وولده أحمد، لكن أن يكون القاضي فناناً غنائياً ويغني في زمن الدولة المعاصرة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي -لا يكتب فقط- فذلك نادر وفريد.

وحده الفن يستطيع أن يجعل من القاضي عاشقاً يُطربنا بالغناء، ومن الضابط شاعراً يدهشنا بالقصائد.

قُصف عمر الحميقاني باكراً. شاعر بهذا التميز، أنجز كل ما كتبه في سنوات توهجه وشبابه، قُتِل في مجزرة 13 يناير مع 12 ألف ضحية لصراع عبثي مقيت، وبينهم الفنان والطيار، الأديب والشاعر، الصحفي والمهندس، المثقف الطبيب، العامل والفلاح، الطالب والمعلم، العسكري والمدني.

رحل ضحية الجنون السياسي، وكأن رصاصة السياسة أُطلقت على الدولة كلها في الجنوب، لا على الأجساد فحسب.

غاب الحميقاني باكراً ضحية حرب، ومات شريف ناجي بداية الألفية الثانية مريضاً بلا سند.

وما أقسى أن يفقد الشاعر والفنان صوته وحضوره مرتين: مرّة بالموت، وأخرى بالنسيان والتجاهل.

    الجيش… حين كان الحاضنة الأولى للفن



قد يبدو غريباً في زمن الخراب الراهن وسنواته القاحلة، أن نتحدّث عن الجيش بوصفه حاضنة شعر وغناء، لكن هذه كانت ظاهرة في صنعاء وعدن، بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر.

ذكرنّي انتماء الشاعر ناصر علوي الحميقاني للجيش في عدن بأسماء عديدة لشعراء وفنانين خرجوا من الجيش أو مروا عليه: الفنان علي الآنسي، صاحب نشيد “نحن الشباب” الذي عمل في الجيش وغنى للجنود في حصار السبعين يوم، والفنان علي السمة صوت الملحمة الوطنية "الباله والليله البال"، أحمد المعطري صاحب "يميناً بمجدك يا موطني"، وأمل كعدل التي غنت للوحدة مع الفنان أحمد قاسم "الوحدة اليمنية يا شعبي أغلى إنتصار"، وغيرهم.

كان الجيش في تلك المرحلة يمثل روح الثورة والوعي الوطني، ولهذا خرجت منه أصوات تعلَّمت الانضباط العسكري، لكنها لم تفقد رهافة الإحساس.

من الشعراء يبرز عثمان أبو ماهر، الذي كتب واحدة من أجمل قصائد الغناء الوطني:

غنيت أنا رأس عيبان الصمود
للأرض للشعب وللوحدة الخلود

أحياناً، تُزهِر حساسية الشاعر الحقيقي في المعسكر، بينما يخفق مَن لا شيء لديه ليقوله حتى لو تفرغ للشعر ودرس الأدب، وتفرّغ للتجوال بين مناظر الجمال وفعاليات الأدباء ومجالس الشعراء.

كان عثمان أبو ماهر ضابطاً في الجيش، وكتب أعذب القصائد، تغنَّى بالزراعة والمطر، وكتب الأناشيد الوطنية، وأبدع في كل قصائده الغنائية:

يا ليت وأنا طير ما يحمل مرور
شا نزل عدن فجر وأمسي في حجور

محد يقول لي علومك والطيور
ولا يسائل إلى أينه من تزور

يوم كنت جاهل تجرَّعت الأمر
من غاب قالوا عدن شلت نفر

واليوم شبيت وعلمني البصر
أن اليمن واحدي بحراً وبر

شلال وادي بناء شل العقول
وشل لأبين زغاريد الغيول

وحدة بلادي فغني يا حقول
غنى لها عانقيها يا سبول

غنيت أنا رأس عيبان الصمود
للأرض للشعب وللوحدة الخلود

بينما نقرأ لشعراء مدنيين كتبوا القصائد الغنائية بوجدان جاف ومتصحر كأنّهم في عنبر يقضون عقوبة عسكرية، ويستذكرون أمثالا مستهلكة لا جمال فيها ولا معنى، ولا صورة ولا أثر لأناقة تعبير أو عذوبة إحساس:
"لا تحسُب البُرمة مدل وكل حدية عُصفرة، يا خِل ما بش لك أمل والحب يشتي خنزره!".

ثم ماذا بعد:

في الذكرى الخامسة والثلاثين للوحدة اليمنية، الأغنية وحدها من يعيد لنا بهاء هذا اليوم الوطني المجيد.
نغني للوحدة الحُلم، حتى في زمن التشظّي.
من "رددي أيتها الدنيا نشيدي" إلى “وحدة بلادي فغنّي يا حقول”، ومن "اليوم يا تاريخ قف" إلى "الوحدة اليمنية يا شعبي أغلى إنتصار".

وبجانبها سلسلة طويلة من الأناشيد والأغاني الوطنية، رسمت في مخيّلتنا صورة الوطن الذي نتبيّن ملامحنا في قصائده ونغماته.

ربّما تطول التشطيبات وتتناسل الحواجز بين اليمنيين.
ربّما أوغلت الحروب في إطالة شتاتنا.
ربّما يجرحنا كثيراً هواننا أمام خارجٍ يعبث بنا.
لكننا ندرك أن الأغاني لا تمزّقها الحروب.
وأن القصائد لا تموت.
وأن ما يحدث لليمن ليس قدراً أبدياً،
وأن قروناً طويلة من المحن والصراعات الدامية لم تقوَ على كسر اليمن.

ومضة بردونية:

مايزال الليل يسري مثلما
كان يسري، مايَزال الفجر يطلَعْ

ماتزال الأرض حُبلى بحشاً
في حشاها مايزال البرق يلمَعْ

ذلك الطافي، سيطفو غيرهُ
ويظلُّ الغائر المنشود أروَعْ

ربما امتدَّ الذي جاء، لكي
ينضجَ المأمول أو يختار منبَعْ

مقالات

إب.. المدينة التي يمزِّقها الحوثي بصمت!

لا أظن أن هناك مدينة تعرَّضت للتخريب الصامت من قِبل الحوثي مثل مدينة إب. إنه يكرّس تركيزه على هذه المدينة، يعمل على تمزيق هويتها بشكل مُمنهج، يزرع خنجره السام والموحش بشكل انتقامي.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.